فخري محمد

قبل أشهر ضجت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي في الوطن العربي بشكلٍ عامٍ، وفي لبنان بشكلٍ خاصٍ، بمقطع فيديو يُظهر أطفالاً صغار في أحد دور الحضانة وهم يُعنفون على يد إحدى العاملات في الحضانة بطريقة بشعة.

الحدث دفع السلطات اللبنانية لإغلاق الحضانة واعتقال متهمتين على ذمة التحقيق.
مقطع الفيديو المسرب لاقى تفاعلاً كبيراً على مواقع التواصل الإجتماعي، وعبّر كثيرون عن سخطهم من تصرف العاملة، وطالب البعض منهم بإنزال أقسى العقوبات بحق كل المشاركين في ما وصفوه بالجريمة.

وعلى النقيض من ذلك، حمّلت تعليقات البعض على السوشيال ميديا الأمهات العاملات المسؤولية، وذلك لوضع أطفالهن في دور الحضانة ورياض الأطفال، وطالبوهن بترك وظائفهن واقتصار دورهن في الحياة على العمل المنزلي وتربية الأطفال.

المُطالِبون بذلك تناسوا أو تجاهلوا الوضع الإقتصادي الذي يعيشه اللبنانيون، وما فرضه من التزامات مالية على الطبقة الوسطى، التي بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً، مع اتساع مساحة الطبقة الفقيرة، إذ بات ما نسبته 55% من اللبنانيين تحت خط الفقر، وفق تقرير لجنة الأمم المتحدة الإجتماعية والإقتصادية لغربي آسيا (الإسكوا)، وذلك على إثر تفاقم أزمة فيروس كورونا، والإنهيارات المتتالية لليرة اللبنانية أمام الدولار، وما تبعه ذلك من تجميد لودائع اللبنانيين في المصارف العامة والخاصة.

هذا الهجوم قوبل بهجومٍ مضاد من الأمهات العاملات ومن مؤيدي عمل المرأة عموماً، والذين أكدوا أن المرأة العاملة تجبر على العمل في المنزل وحدها وسط انتشار ثقافة مجتمعية ترفض تقاسم المسؤوليات المنزلية بين الرجل والمرأة، وهو نقيص ما ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثانية، بأنه “لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الإجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر”.

ناهلة سلامة صحفية لبنانية وناشطة حقوقية، تحدثت عن تجربتها كونها أم عزباء، في ظل الأوضاع الإقتصادية التي يمر بها لبنان، وأكدت أن تكاليف المعيشة المرتفعة تجبر المرأة على العمل في بيئة غير آمنة أحياناً، وهو ما يجعلها تعيش حالة من القلق في ظل التخبط الذي تعيشيه البلاد، وأشارت إلى أن معظم النساء العاملات يفتقدن إلى ما أسمته الضمان الوظيفي أو الدخل الثابت الذي يحميها من تقلبات أو نكسات قد تواجهها في العمل.

وأوضحت أن عمل المرأة في لبنان ليس سهلاً مطلقاً، عندما تكون مسؤولة عن أشخاص آخرين يعيشوا معها في نفس المنزل، لا سيما إن كانوا أطفالاً، مشيرة إلى أن الوضع القائم لا يبشر بنتائج إيجابية، وعزت ذلك إلى الدولة اللبنانية، التي لا تتحمل مسؤولياتها على أكمل وجه في هذا الخصوص.

واستغربت سلامة من كمية الهجوم على الأمهات العاملات في مواقع التواصل الإجتماعي، واستهجنت العنف اللفظي والتنمر الوارد في بعض المنشورات التي حولت المرأة العاملة التي سجلت طفلها في دور الحضانة إلى متهمةٍ بالتقصير، منوهةً بأن صعوبة تحمل المصاريف الحياتية اليومية من قبل الرجل أو من قبل شخصٍ واحدٍ فقط في المنزل، وسط انعدام الحلول للعيش حياةً كريمةً أو تأمين الحد الأدنى منها، دون عمل الرجل والمرأة الشريكين في بيتٍ واحد.

ونوهت ناهلة سلامة إلى أن معظم التشريعات التي تسنها الدولة تتحول في سوق العمل إلى ما يشبه أعراف لا قيمة لها، لا سيما أن النظام الداخلي لأغلب الشركات والمؤسسات الخاصة يتعارض مع تلك القوانين الموضوعة من قبل الحكومة، ويتم تجاهل هذه القوانين وأهمها تحديد ساعات العمل لمصلحة النظام الداخلي بالشركات التي تقر ساعات عملٍ طويلة.

بالإضافة إلى أن إجازة الأمومة المقتصرة على 75 يوماً قليلة جداً بالنسبة للأم العاملة، التي تتخوف أن يتخلى رب العمل عن خدماتها أو أن تخسر مركزها في العمل بسبب هذه الإجازة، وطالبت سلامة بإقرار إجازة أمومة لمدة عامٍ كاملٍ مدفوعة الأجر أسوةً بدولٍ أخرى فعلت ذلك.

وأشارت إلى أن المرأة العاملة غير محميةٍ من المجتمع، وعليها –المرأة- أن تتجاهل التعليقات والآراء السلبية، وعليها كذلك أن تحصن نفسها وعائلتها، وتفعل ما يناسبها ويناسب عائلتها، ودعت الأمهات العاملات اللواتي يرغبن بتسجيل أبنائهن في دور حضانة أو رياض أطفال أن يتأكدن من الأسماء أو الأشخاص الذين يديرون تلك الحضانة أو الروضة ومن جودة وقيمة الخدمات التي تقدمها لطفلها.

وأشادت ناهلة سلامة بدور منظمات المجتمع المدني في لبنان لمساعيها في تمكين المرأة في المجتمع من خلال دورات محو الأمية ودعم المشاريع الصغيرة، خاصة في الغياب الملحوظ لأي دور حكومي في هذا المجال، وبينت أن دور المنظمات مميز جداً وأساسي ولا يمكن الاستغناء عنه، لا سيما مع انتشار الجهل والفقر، خاصة في المجتمعات الصغيرة والمنغلقة على نفسها، وشددت سلامة على أن تمكين المرأة يجعلها قوية ومستعدة لمواجهة الأزمات مهما كان نوعها أو طبيعتها.

وهكذا تحول عمل المرأة في لبنان من وسيلة لتحقيق الذات ولإبراز الشخصية والقدرات والمهارات الخاصة بها، إلى وسيلة ولكن لتأمين لقمة العيش للعائلة مع زيادة الأعباء الإقتصادية المفروضة على اللبنانيين.

ورغم النسبة القليلة التي تشغلها المرأة في سوق العمل في المنطقة، إلا أن هذه النسبة تعاني تحدياً من نوع آخر، وهو حرمانها من أطفالها خلال ساعات العمل، وحرمانهم من حنانها وعطفها، في وقت لا تملك الأمهات الوقت الكثير لإظهاره أو للتعبير عنه، وهو ما أشارت إليه ميديا غانم وهي صحفيةٌ من مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، وأمٌّ لثلاثة أطفال، مؤكدةً أن العمل في مجال الإعلام في منطقة مليئة بالحروب وباقتصاد متعثر، هو عمل متعب وشاق للغاية خاصة على الأمهات، اللواتي يعملن تحت ضغط تأمين حياة كريمة لأطفالهن، وهو ما يؤثر على صحتهن النفسية التي تتعرض لخدوشٍ كثيرةٍ جراء المسؤولية الملقاة على عاتق الأم العاملة.

وبينما لم تواجه ميديا أي معارضة لعملها في الإعلام من قبل عائلتها الصغيرة، إلا المحيط أو الجيران انتقدوا بادئ الأمر ساعات عملها الطويلة، وطبيعة العمل التي تقتضي أحياناً السفر أو خوض غمار أحداث لا تليق بالمرأة، حسب وصفهم.

وأشادت غانم بالقوانين الخاصة بالمرأة التي أقرتها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، لكنها انتقدت في الوقت نفسه عدم تطبيقها على الأرض بالشكل الأمثل، ودعت لتطبيقها على الفور لأن هذه القوانين ستكون مثل الدرع الذي تحتمي به المرأة من بعض فئات المجتمع، التي ما زالت متمسكة بعادات وتقاليد بالية.

ودعت ميديا غانم المرأة العاملة لعدم الاكتراث لما يقوله منتقدو عمل المرأة، لأنها لو استسلمت لهم فإنها ستكون حبيسة منزلها، وطالبتها كذلك بالتشبث بإرادتها وقناعاتها لأنهما سلاحها الوحيد لمواجهة المجتمع ولحماية نفسها وأطفالها منه، وللتأكيد على قيمة عملها، وعدم اقتصار دورها على العمل في المنزل، شأنها في ذلك شأن الرجل.

ورغم كل الظروف التي تعيق عمل المرأة إلا أن مناطق الإدارة الذاتية هي أفضل مكان لعيش المرأة حسب وصف غانم، مقارنةً مع المناطق الأخرى في سوريا، وطالبت في الوقت نفسه منظمات المجتمع المدني بتكثيف جهودها لمحو الفكرة السيئة عن عمل المرأة المرسومة لدى فئات في المجتمع.

وهكذا نرى أن التحديات التي تواجه الأم العاملة تتقاطع في كثير من التفاصيل، على الرغم من اختلاف الثقافات والواقع السياسي بين البلدين، إلا أن انتشار ثقافة أن العمل المنزلي لا يعد عملاً، لأنه ليس مأجوراً، يزيد من الأعباء على الأمهات العاملات لتنفيذ المسؤوليات المنوطة بها، في مكان العمل وفي المنزل، على حدٍّ سواء.

وهذا يحتم على المؤسسات التشريعية الاقتداء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وسن تشريعات وقوانين تجارية تطور الحياة، وعدم العمل بقوانين أكل الدهر عليها وشرب، لم تعد صالحة لهذا الزمان الذي تتساوى فيه المرأة مع الرجل في كل شيء، إن لم تكن تمتاز عليه بأنها في حربٍ ضروس ضد ذهنيةٍ ذكوريةٍ متجذرةٍ في المجتمع لنيل حقوقها.

By admin-z