حسين محمد

“تُنشر هذه المادة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) ومجلة صور في برنامج تعاون ضمن مشروع “المرآة”، حول “حقوق الإنسان والحريات العامة”

يتساءل الكثير من المراقبين والمحللين الاستراتيجيين ورجال السياسة والاقتصاد، وحتى “تجار الصنف” وباعة البسطات في الأسواق الشعبية، وجامعي القمامة و”جامعاتها” (وهن الأغلبية الساحقة من العاملين في هذا الحقل الاقتصادي الهام والجوهري والاستراتيجي) المنتشرين في كافة أصقاع هذه البلد السعيد، الجميع يتساءلون عن سر “الصمود الوطني” رغم سنوات “الحرب الكونية” الطويلة، وهي من الكلشيهات الأكثر ترديداً في إعلام النظام السوري.

رغم وحش الجوع الذي ينهش أجساد السوريين، رغم البرد الذي يتغلغل في العظام، ورغم الظلام الدامس الذي يخيم على أيام السوريين في مناطق النظام بالدرجة الأولى وفي المناطق التي تخضع لسيطرة الفصائل والإدارة الذاتية وإن بنسب أقل، مما أجبر الناس على نسيان معظم الأجهزة الكهربائية في منازلهم مثل البردات والغسالات وأجهزة التلفاز وغيرها، لتتحول إلى خردة بسبب انتفاء الحاجة إليها؛ كون الكهرباء لا تزور بيوتهم إلا لماماً ما يذكِّر ببيتَيْ المتنبي الشهيرين:

وزائرتي كأنّ بها حياء فليست تزورُ إلا في الظلام

فرشتُ لها المطارفَ والحشايا فعافَتْها وباتت في عظامي

والمتنبي لم يكن يتحدث في هذين البيتين عن الكهرباء طبعاً، إذ لم تكن السلطات في زمنه ثورية إلى الحد الذي تقوم فيه بكهربة البلاد لتضيفه إلى انجازاتها التي يحفظها أطفال المدارس عن ظهر قلب ليسردوها غيباً أمام أساتذتهم ومسؤولي منظمات الطلائع والشبيبة في الدولة العباسية أو الحمدانية أو الإخشيدية التي تنقّل بينها الشاعر خلال رحلة حياته الحافلة.

وهو لا يتحدث أيضاً عن حبيبته أو عشيقته أو صاحبته أيضاً، كما قد يتوهم بعض الرومانسيين الباقين على قيد الحياة خطأ في بلد المليون ضحية، والعشرة ملايين لاجئ إلى البلاد التي هزمناها ومسحنا بها الأرض، والسبعة ملايين مشرد ونازح داخلي الذين يساهمون في تقوية أواصر اللحمة الوطنية واندماج فئات الوطن وطوائفه وملله ونحله حسب نظرية بشار الاسد في تأثير الحرب والنزوح على زيادة التقارب والاندماج بين أبناء البلد بطوائفهم وقومياتهم وأديانهم، مما ساهم في الترويج لفكرة النزوح الداخلي وتحويلها من كارثة إنسانية ووطنية إلى إنجاز أيضاً للسلطة القائمة كعادتها في تحويل كل هزائمها وخطاياها بحق الوطن إلى انتصارات وإنجازات.

المتنبي يصف حمى أصابته وجعلته طريح الفراش، لكن عظمة الشعر والشاعر تجعل لكل عبارة أفقاً أوسع وتعدداً في التأويلات، وخلوداً عبر الزمن المتغير والمتجدد دائماً.

النباشون … الطبقة العاملة الجديدة

نعود إلى السؤال: ما الذي دعم “الصمود الوطني” في ظل الحرب الكونية والحصار والمؤامرات والدسائس التي يحيكها الأعداء ليل نهار ضد وطننا الحبيب، حتى صرنا نحن السوريين على قناعة مطلقة بأن العالم كله لا شغل له ولا عمل سوى الجلوس خلف شاشات غرف العمليات لحياكة مؤامرة جديدة ضدنا قبل أن تفشل سابقتها ونخرج منها منتصرين، فمنذ أبصرنا النور في هذه البلاد والمؤامرات مستمرة متلاحقة كزخّ المطر في كوانين؟!

ما الذي جعل البلد صامداً ومنتصراً برطانة محللي وعلماء المقاومة والممانعة؟

It’s the economy, stupid “إنه الاقتصاد يا غبي”، الجملة الشهيرة التي قالها الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون خلال حملته الانتخابية ضد منافسه جورج بوش الأب عام 1992 ليفوز بالرئاسة وبقلب مونيكا لوينسكي أيضاً.

الاستبداد والحرب.. كسورٌ مخيفة في الروح

نعم إنهم جيوش العاملين في نبش القمامة، وتعفيش ما تبقى من بيوت الناس المدمرة حتى سحب أسياخ الحديد من القواعد البيتونية والأعمدة والجسور المتهالكة نتيجة القصف والدمار خلال سنوات الحرب، إنهم سر صمود البلد وجبروته.

هم أناس مثلنا يحلمون بحياة آمنة مستقرة تحقق الحد الأدنى من المعيشة وحقوق الإنسان، أناس فقدوا الأمل بكل شيء، فقدوا الإيمان بأي شيء بعد أن سُدّت في وجههم كل منافذ العيش الطبيعي.

يمضون أيامهم بين أكوام القمامة أو بين جبال التراب الناتج عن تكسير البيتون من المنازل المدمرة أو نصف المدمرة، لسحب الحديد الذي يشغّل معامل النظام التي أنشئت خصيصاً لقهر “الحصار” واستمرار عجلة الإنتاج بالاعتماد على المعادن الصدئة والمستهلكة، ومحتويات القمامة من ورق وبلاستيك وغيرها لإعادة تدويرها وضخها في السوق دون أي اعتبار لتأثيرها على صحة وسلامة الناس الباقين تحت رحمتهم، ولم تسعفهم ظروفهم في الهروب من المستنقع الوطني.
سكان الحاويات
تستفيق صباحاً، تفرك عينيك، تتفقد بطاقتك الذكية أولاً، نعم إنها في الحفظ والصون، تلبس على عجل لتصل إلى المخبز الذي يكون قد ازدحم عليه “المتواطنون”، لكنك في الطريق إلى المخبز تشعر بالخوف والتوجس من العتمة التي تخيم على المدينة، حيث لا إنارة للبيوت حتى تكون هناك إنارة للطرقات العامة والشوارع الفرعية في حي شعبي كان بائساً قبل الحرب ثم تحول الى بقايا بشر متعبين وخراب بعد أن مرت عليه الحرب التي لم تنته بعد، وإن انتهت أصوات القذائف والبراميل والتفجيرات والدخان، بل بدأت حرب أشرس هي حرب الرغيف.

لكن ما يشعرك ببعض الأمان والاطمئنان هي أشباح بشرية تتحرك حاملة أكياسها الفارغة الكبيرة، والتي اختفت ألوانها ومالت للسواد الفاحم بفضل استعمالها المتكرر في نقل القمامة من الحاويات إلى مراكز رئيسية لشرائها منهم، بعد أن يكون هؤلاء الكادحون والكادحات قد فرزوها حسب المواد المصنوعة منها (بلاستيك، ورق، ستيريبور، بلور …الخ).

إنها البروليتاريا السورية الجديدة تمضي مع مطلع الفجر إلى الحاويات والقمامة المكدسة فيها وحولها، ليصل كلٌّ قبل أقرانه، ويظفر بالغنيمة الثمينة قبلهم.

إنها حاملة عبء الصمود الوطني بفضل مثابرتها وإصرارها على العمل والإنتاج، رغم الحصار والمؤامرات والعدوانات المتكررة على منشآتنا ومطاراتنا، تزود معامل النخبة من أثرياء الحرب ورجال السلطة بالمواد الأولية الرخيصة على حساب صحتها وصحة أولادها.

هؤلاء وهم في معظمهم نساء وأطفال يخرجون مع الفجر، ليدخلوا في قلب الحاويات وينبشوا فيها عن المواد المطلوبة لتجار كبار هم حيتان المهنة، يستقبلون بضاعتهم ويحاسبونهم عليها، ثم يكملون شغلهم لتشغيل معاملنا التي تعيد إنتاجها مواد للاستعمال المنزلي والصناعي كل حسب اختصاصه.
بشر بلا حقوق

هؤلاء لم يسمعوا بشرعة حقوق الإنسان وبحق أي إنسان في أي دولة على سطح هذا الكوكب المظلم في العمل الكريم والآمن، والسكن الصحي، والخدمات الإنسانية الطبيعية، دون فضل أو منة وقرع الطبول والأبواق لشكر صاحب المنح الربانية على فتح مدرسة، أو تعبيد شارع، أو بناء مخبز أو مستوصف، فكل دول العالم تقوم بتقديم هذه الخدمات كواجب تفقد بدونه مبرر وجودها.

لم يخبرهم أحد بأن (لكلِّ شخص حقُّ العمل، وفي حرِّية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة. (وإن (لجميع الأفراد، دون أيِّ تمييز، الحقُّ في أجٍر متساوٍ على العمل المتساوي). وإن (لكلِّ فرد يعمل حقٌّ في مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية).

أما ان يكون (لكلِّ شخص حقُّ إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه) فهذه متروكة الى زمن آخر، حين ينزاح هذا الكابوس الذي يجثم على أنفاس السوريين منذ عقود.

هذه الشذرات من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تعني شيئاً لأولئك الذين يخرجون من بيوتهم تحت جناح الليل لينبشوا في القذارة بأيديهم العارية، لعلهم يحصلون ثمن خبز العائلة، وهم يزيدون في إثراء وبطر الجهات المتحكمة في أقدارهم وأقدار البلد حتى إشعار آخر.

في الجهة الشرقية من العاصمة دمشق، وتحديداً مقابل القوس الأثري للباب الشرقي من المدينة القديمة، تنتصب “منشأة” ضخمة تحتل مساحة واسعة تصل بين باب شرقي وطريق “المتحلق الجنوبي” حيث الطريق الدولي الواصل بين كل من لبنان والأردن من جهة وبين تركيا أو المرافئ السورية المحتلة من الروس والإيرانيين من الجهة الأخرى، في منطقة تسمي “الإدعشرية” كانت منطقة صناعية سابقاً، تتكوم يومياً كائنات بشرية لا تنتمي إلى عالمنا الطبيعي، كائنات تمضي يومها مع قمامة المدينة، يغوصون في تلالها بأياديهم العارية ووجوههم المكشوفة، لا يلبسون ما يقيهم الأمراض والأوبئة التي يتسبب بها التعامل مع هذه المواد القذرة، ومخاطر التعرض للأذى من المواد الحادة والبلور المكسور لتصبح جروحهم ممرات للجراثيم والقاذورات، ليلموا ما تيسر لهم من مواد مطلوب فرزها من هذه القمامة، ويشرف عليهم مراقبون من المافيات التي تقوم بالمراحل التالية من تجهيز المواد المفروزة وتسليمها لمعامل معظمها غير مرخص لإعادة تدويرها.

انها محطة القمامة التي تستقبل يومياً ما يقارب ألفي طن من نفايات المدينة حيث تفرغها سيارات المحافظة على الأرض ليهرع إليها النباشون، أطفال ورجال ونساء بوجه مغبرة كالحة وعظام ناتئة تكاد تخرج من أجسادهم، حاملين أكياسهم التي تلونت بالسواد لينقبوا في هذه الجبال من القمامة بحثاً عن مواد من البلاستيك أو الكرتون أو قطع المعادن، قبل أن تأتي الشاحنات الكبيرة لتعيد تحميلها بعد أن ينتهي النباشون من عملهم إلى مكب أبعد في منطقة دير الحجر.

ومن المعلوم انه صدر في سوريا قانون مكافحة ظاهرة النبش (القانون رقم 49 لعام 2004)، لكنه لم يطبق سوى في مرات نادرة وعلى الحلقات الأضعف التي تضم الباحثين عن رزقهم في هذه المهنة اللاإنسانية، وتتغاضى عن حيتان المهنة الذين حالما تتقصى منابتهم تجدها في قصور النظام الحاكم.

الموت البطيء

إضافة إلى الظروف اللاإنسانية لهؤلاء الكسبة الضحايا الذي أصبحوا بعشرات الألوف في دمشق وحدها، وفقدان كل ما يمتّ إلى الإنسانية وحقوق الإنسان في ظروف عملهم، حيث تنتشر الأمراض التنفسية وأمراض الجهاز المناعي والأمراض الأخرى الناتجة عن روائح التخمر الصادرة عن الحاويات، وتعرضهم إلى جراح قاتلة تسببها قطع الحديد والزجاج والنفايات الطبية وغيرها، حيث كشفت إحصاءات عن انتشار أمراض خطيرة وفتاكة بين هؤلاء، مثل أمراض نقص المناعة والتهاب الكبد الوبائي وأمراض التنفس والالتهابات، فإن الدولة تخسر ما يقدر بمائة ألف دولار يومياً بسبب عدم تنظيمها لهذه المهنة، لتقوم بها شركات مختصة وآليات تبعد مخاطرها عن البشر، وتحقق الجدوى من إعادة تدوير النفايات الصلبة في معامل مخصصة لذلك، ولا تدمر الصحة والبيئة.

لكن المافيات التي تعمل في العلن وتستخدم هؤلاء الفقراء المقهورين في أعمالها القذرة لا يناسبها تطبيق القانون، وبناء صيغة نظامية لهذه الصناعة والعاملين فيها تؤمن الحماية لهم وحقوقهم الإنسانية والنقابية وغيرها.

وتعمل هذه المافيات بالتنسيق مع أشخاص متنفذين في السلطة على إدامة وانتشار وتوسع هذه المهنة الخطيرة بين قطاعات أوسع من السوريين، مع انتشار وتعمق ظاهرة الفقر والجوع نتيجة التدهور المريع للأحوال المعيشية للسكان الباقين في سوريا، سواء في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، أو تلك التي تحكمها الادارة الذاتية، أو في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في الشمال السوري، حيث تسود الفوضى وغياب القوانين والتعديات الفظيعة على حقوق الإنسان.

قد يقال كيف يمكن لحكومة أو سلطة أن تترك أبناء شعبها نهباً لهذه المهن المدمرة للأجساد والأرواح؟!

لكن السؤال يفقد مبررات طرحه حين نعلم أننا نتحدث عن حكومة تعطي الموظف لديها أقل من عشرين دولار شهرياً، أي أنها تستعبد موظفيها، في حين أن تكاليف الحد الأدنى للمعيشة تتجاوز أربعمائة دولار؟!ثم تسكت عن السؤال تماماً حين تعلم أنها نفسها السلطة التي دمرت أكثر من نصف البلد ولم تقم بإعادة إعمار حائط واحد لمواطن تاركة الناس لمصائرهم، بل إنها تفرض “خوات” وضرائب على من يريد أن يعيد إعمار منزله المدمر من براميلها وصواريخها، حتى تمنحه الموافقة على الترميم، وتسمح له بإدخال مواد البناء والترميم إلى المناطق التي قامت بتدميرها ثم تحريرها من أهلها.

By admin-z