رغد المطلق

نقف اليوم على أعتاب العام الثالث عشر من الحرب المجنونة التي لم تتوقف يوماً، ثلاثة عشر عاماً ولّدت تداعيات بحجم عدد من قتلوا على ترابها، وبحجم من هاجر ومن نزح، ومن فقد ومن اعتقل، ومن اختفى دون أثر، وبحجم شبابها الذي يقف اليوم على أبواب العيادات النفسية ينتظر دوره ليحظى ببضعة أقراص من مضادات الاكتئاب لعله يهرب بفضلها لوسادته دون قلق وتفكير وأرق.

خلال تلك الأعوام في جغرافية هذه البلاد كان الكل يصارع بعضه البعض، إلا الشباب يصارع نفسه، يصارع ما تبقى من أحلامه في بلاد أصرت ان تكون جلاد أبنائها، فكانوا هم الفئة المتضررة بشكل أكبر وخاصة على الصعيد النفسي، طالما سوريا هي حاليًا في خضم أزمة تعتبر الأكبر إنسانيًا في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

تشرح ريما الشيخ، 22 عاما طالبة جامعية تقيم في الحسكة، عما تعانيه من تعب نفسي فتقول: “عانيت لفترة طويلة من نوبات قلق وتعب نفسي، بالفعل كنت مثقلة بالجراح النفسية، وانعكس ذلك على جسدي وفقدت الشغف من كل شيء، ولم أعد أعلم كيف يمر الوقت حتى نصحتني إحدى الصديقات بأن أزور معالجا نفسيا، وبالفعل بعد تردد خضعت لجلسة معاينة، وكان التشخيص اكتئاب حاد”.

لم تعاني ريما من صدمة ما حتى أصبحت في هذه الحال، إلا أنها لم يكن من فراغ؛ فتبين أن ذلك كان من البيئة المحيطة والحرب وأوضاع البلاد: “لا أحد يشعر بالراحة هنا، ولا توجد مقومات تجعلك تشعر بالرفاهية النفسية حتى، لذلك يموت الشغف ثم ندخل حالة الاكتئاب، أنا أفشل دومًا بالتعبير عن شعوري في هذه الحالة، تهجّرت من مدينتي حمص، لم أدخل الفرع الجامعي الذي طالما حلمت به، تشردت العائلة، باختصار نحن نفتقد للحياة في هذه الحرب”.

لا تتوفر أرقام وإحصائيات دقيقة حول نسبة الشباب الذي يعانون من جراح نفسية في سوريا، لكن منظمة “إغاثة سوريا” البريطانية أجرت في وقت سابق استبيانا شمل 721 من الشباب والشابات السوريين في لبنان وتركيا وشمال سوريا، لتعلن أن 75 في المئة منهم يعانون من سبعة أعراض على الأقل لاضطراب ما بعد الصدمة.

وبناء على إحصائيات الصحة العالمية حول نسب الاضطرابات النفسية، وجدت جمعية الأطباء النفسيين السوريين أن 4 في المئة نسبة الاضطرابات النفسية الشديدة بين السوريين حالياً بحوالي 1,2 مليون من إجمالي 24 مليون، بحسب تقرير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في عام 2015.

والصدمة النفسية أو (التروما) تنتج عن حادثة مخيفة جدا، خارجة عن سيطرة الشخص كوقوعه ضحية اعتداء أو حادث سير أو العيش في مناخ حرب أو كوارث طبيعية، وقد يصيب اضطراب ما بعد الصدمة أي فئة عمرية وتحفز أعراضه من خلال روائح أو أصوات تعيد ذكريات التجربة الصادمة، وفقاً لدراسات طبية.

الوصم والتمييز في مجال الصحة النفسية
بدوره يروي صالح الحسين (أسم مستعار)، 27 عاماً من بلدة الجوادية أقصى شمال شرق البلاد، عما مر به خلال “فترة التروما”، ويقول: “لا أحد يعلم شيئاً عن أقراص الدواء التي وصفها لي طبيبي النفسي؛ لأني اخبئها بين ثيابي عن عائلتي وأقربائي، فالمعالجة النفسية بنظرهم هي جنون للأسف، لا يتفهمون ما نشعر به أو ما نعانيه، نفتقد لوعيهم فيما يخص صحتنا النفسية”.

عانى صالح هو الآخر من الاكتئاب كـحال ريما: “تشعر أن الحياة واقفة وعقارب الساعة لا تمشي، أصبحت أعد الأيام وأكبر إنجاز في يومي هو القيام من فرشتي للمطبخ، فقدت قدرتي على القيام بأي عمل ولم يرافقني إلا القلق والنوبات المزاجية… كان ذلك يختصر بـ(اضطراب ما بعد الصدمة) كما وصف الطبيب”.

يختصر صالح معاناته أو أسباب تلك المشاعر بأن “هذه الجغرافية أصبحت قاتلة لشبابنا، لا فرص ولا عمل، حتى لا يوجد أمان، قلق يخيم على كل مناحي الحياة… هناك خياران فقط أما البقاء في المنزل تصارع أفكارك وتحاول النوم بمساعدة أقراص الدواء أو حمل السلاح وتقاتل إلى مالا نهاية، والخياران نهايتهما مجهولة إن لم تكن الموت..!”.

وتقدر منظمة الصحة العالمية أن في المناطق المتأثرة بالنزاعات، يعاني شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص من شكل من أشكال الاضطرابات العقلية، سواء من الاكتئاب الخفيف أو القلق إلى الذهان، والأسوأ من ذلك، أن فرداً واحداً من كل عشرة أشخاص تقريبًا يعاني من اضطراب عقلي متوسط أو شديد.

وتلعب العوامل الثقافية والاجتماعية دورا مهما في تفاقم حالات القلق والاكتئاب، بما في ذلك وصمة العار المحيطة بالصحة النفسية ومحدودية الوصول إلى الموارد والدعم، وذلك أبرز معاناة صالح.

في هذا الإطار يبين محمد الأحمد، وهو مرشد نفسي وعامل في منظمات المجتمع المدني في الحسكة، أنه من الضروري الاستمرار في تقديم الرعاية النفسية للشباب ورفع مستوى الوعي وتقليل وصمة العار المحيطة بالصحة النفسية، ويجب التركيز على تغيير الثقافة المحيطة بالصحة النفسية وتشجيع الشباب على تجاوز الوصمة المجتمعية والبحث عن الدعم النفسي اللازم؛ لتحسين جودة حياتهم العقلية والعاطفية.

ويجمع نشطاء على أن الوصم والتمييز في مجال الصحة النفسية قضية جوهرية تؤثر على العديد من الأشخاص وتحول دون البحث عن المساعدة المناسبة، ويمكن أن يكون الوصم المجتمعي حول الصحة النفسية نتيجة للجهل أو الافتراضات الخاطئة أو التحيزات المجتمعية، فيما قد يتعامل البعض مع القضايا النفسية بصورة سلبية ويروجون للأفكار الخاطئة والتحفظات بشأن الذهاب إلى عيادات نفسية.

في هذا الجانب تشدد الناشطة والصحفية سولين محمد أمين على ضرورة تغيير هذه النظرة السلبية وزيادة الوعي بأهمية العناية بالصحة النفسية: “يتعين على المجتمع تعلم أن الصحة النفسية هي أمر طبيعي وشائع ويمكن أن يتأثر به أي شخص في أي وقت من الأوقات، يجب أن يتم تشجيع الشباب على التحدث بصراحة عن مشاعرهم والبحث عن المساعدة اللازمة، بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز التوعية بأن زيارة العيادات النفسية هي خطوة إيجابية تهدف إلى تحسين الصحة العقلية والعاطفية، ويجب التوضيح للشباب أن البحث عن المساعدة النفسية ليس عيبا، بل علامة على القوة والاهتمام بالنفس”.

“الصحة النفسية حق من حقوق الإنسان”
للصحة النفسية أهمية بالغة في القوانين الإنسانية وضمن قوانين حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وكانت رسالة السيد غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف العاشر من أكتوبر في كل عام، إن “الصحة النفسية ليست امتيازا، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان – ويجب أن تكون جزءا من التغطية الصحية الشاملة”، مشددا على ضرورة أن توفر الحكومات رعاية تساعد الناس على التعافي وتصون حقوقهم.

ولكن على الرغم من هذه الأهمية البالغة إلا أن واحدا من كل ثمانية أشخاص، على الصعيد العالمي، يعاني من اضطرابات الصحة النفسية، على أن هذه الاضطرابات تنتشر بين النساء والشباب بدرجة غير متناسبة، ومن بين كل أربعة أشخاص يعانون من هذه الاضطرابات، يتلقى ثلاثة أشخاص علاجات غير كافية أو لا يتلقون أي رعاية على الإطلاق وكثير منهم يواجهون الوصم والتمييز.

الدعم والرعاية النفسية في المنطقة
ومن عوائق تقديم خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي هو النقص في العاملين في هذا المجال في سوريا، ويقدر أنه لا يوجد أكثر من 70 من الأطباء النفسيين متوفر حاليًا في البلاد ويعملون بشكل رئيسي في دمشق، وهناك علماء النفس، الأطباء النفسيون، والمستشارون، لكنها يفتقرون عمومًا إلى التدريب المناسب والخبرة في العمل السريري، ويرجع ذلك إلى فرصة ضئيلة للتدريب كما في علم النفس السريري، الطب النفسي، عامل اجتماعي، أو ممرضة نفسية، وفقا لدراسة أجرتها منظمة أبعاد.

ويرى نشطاء المجتمع المدني في شمال شرق سوريا، أن المنطقة تعيش تحت ظروف صعبة جراء النزاعات المستمرة والتغيرات السياسية والاقتصادية، ويعاني الشباب في شمال شرق سوريا من تحديات نفسية جسيمة، بما في ذلك الضغوط النفسية الناجمة عن الصراعات والتهجير، وغياب الفرص الاقتصادية والتعليمية المناسبة، وتأثيرات العنف والصراع على الصحة النفسية، كما يعاني الشباب من اضطرابات القلق والاكتئاب وصعوبات التكيف مع الحياة اليومية المضطربة.

وحول وضع الشباب النفسي وسبل تقديم الدعم والرعاية النفسية للشباب، فـمن جانبها تؤكد الناشطة والصحفية سولين محمد أمين، على ضرورة أن تُولى اهتمام كبير لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والتعليمي للشباب في المنطقة، بما في ذلك الوصول إلى خدمات الصحة النفسية والمشورة والتوجيه المهني وفرص التعليم والتدريب المناسبة، في ظل الصراع النفسي الذي يعيشه الشباب في شمال شرق سوريا، لافتة إلى أن الشباب يتعاملون بتحدي مع التأقلم والتكيف مع الظروف الصعبة.

وتضيف سولين، بأنه من الممكن أن يحقق الشباب تأقلماً نسبياً من خلال عدة طرق، كالـدعم النفسي والاجتماعي: “يجب توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي المناسبة، بما في ذلك الاستشارة والمشورة النفسية، والدعم الاجتماعي من خلال المجتمع والعائلة والأصدقاء، يمكن لهذا الدعم أن يساعد الشباب على التعامل مع التحديات النفسية والعاطفية التي يواجهونها”، إلى جانب المشاركة والتمكين: “يجب أن يتم تشجيع المشاركة الفعالة للشباب في صنع القرار وتطوير المجتمعات المحلية عن طريق تمكينهم وإعطائهم صوتاً في الأمور التي تهمهم، يمكن للشباب أن يشعروا بالانتماء والمسؤولية والتأثير الإيجابي في مجتمعاتهم”.

ووفقاً لوجهات نظر مراقبين، يعد توفير الدعم النفسي والصحة النفسية للشباب في شمال شرق سوريا تحديا هاما يتطلب تعاونا ومساندة من السلطة المحلية “الادارة الذاتية الديمقراطية “والمجتمع المحلي والمنظمات الدولية، فيما ينبغي على السلطة المحلية أن تولي هذه القضية الأهمية التي تستحقها وأن تعمل على تحسين الوضع وزيادة الاستثمار في الصحة النفسية للشباب في المنطقة.

هذا، وفي العام الثالث عشر من الصراع الذي لا يتوقف، ومع استمرار تدهور الوضع الإنساني في سوريا، وارتفاع مستويات العنف وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وتجاهل تام لقواعد القانون الدولي والالتزام بحماية المدنيين لا تزال الاحتياجات الإنسانية في ازدياد. نزوح أعداد هائلة من السكان في تزايد أيضا، ويتعرض جيل كامل من الاطفال والشباب للحرب والعنف، كما يتزايد الحرمان من الخدمات الأساسية والتعليم والحماية، وكل ذلك يصب في تفاقم الأزمة النفسية.

الصورة تعبيرية:من النت

By admin-z