حسن عبدالله
من المعلوم أن حرية الإعلام كأداة من أدوات حرية التعبير تستند إلى المبادئ الأساسية لحقوق الانسان والتي سنتها وأقرتها المؤسسات الأممية، واعترفت بها أغلب الأنظمة والسلطات في العالم “كما في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.

ووفقًا للعديد من المدافعين عن حقوق الإنسان فقد يكون “الإعلام هو الأمل الوحيد لضمان حقوق الانسان”، ويشير الدكتور قدري عبد المجيد في كتابه “الإعلام وحقوق الإنسان” إلى أن “حرية وسائل الإعلام تعتبر حقًا مهمًا من حقوق الإنسان. وإلى ذلك تمثل وسائل الإعلام مصدرًا رئيسًا للمعلومات المتعلقة بقيم وأوضاع وممارسات حقوق الإنسان”.

حريةٌ وإعلامٌ يتوافق مع الأنظمة
وتُعتبر حرية الإعلام المؤشر الأول على مزاولة حرية التعبير وتجسيدًا واقعيًا لحقوق الإنسان في مجتمع ما، وبظل نظام معين. بل يكاد يكون الاعتراف بحرية الإعلام شرطاً من شروط الاعتراف الدولي بشرعية هذا النظام أو ذاك ويحدد طريقة تعامل المجتمع الدولي معه.

وهذا الأمر بالذات هو ما يدفع بعض الأنظمة الحاكمة إلى إكساء نفسها وتزيين دساتيرها بأجمل العبارات، التي تؤكد وتشدد على حرية التعبير وحرية الإعلام وحقوق الإنسان؛ فتجد الكلمات من قبيل الحرية والحرة وحرية التعبير وحقوق الانسان مصانة… تتكرر في رؤوس دساتيرها الرسمية، فيما تمتلئ وتزخر سجلاتها ولوائحها الإجرائية بروادع وبعقوبات وإجراءات التضييق على الصحفيين ومحاصرة حرية الرأي والتعبير، وحشر حقوق الإنسان واختصارها فيما يتوافق مع مقاسات ومصالح السلطة الحاكمة أو الطبقة المسيطرة كما يحلو للبعض تسميتها.
حقوق إنسان تتناسب مع الإيديولوجيا السائدة… وإعلام بعيد عن تحقيق الغاية المنشودة
العلاقة بين السلطات والإعلام وحقوق الإنسان علاقة شائكة تحكمها العديد من الأمور، يحدد مسارها جوهر النظام القائم والأيديولوجيا السائدة في البلد الذي تعمل فيه الوسيلة الإعلامية، وتختلف من بلد لآخر، لكنها تتفق جميعها في أن كلاً من حرية الإعلام وحقوق الإنسان ليسا مطلقين بل تحكمهما الظروف وفلسفة السلطة السائدة هناك.

ولعل نظرة سريعة على تغطية الأحداث الجارية في العالم كافية لإظهار حقيقة أن الإعلام يتم تحويله لمجرد أداة بيد السلطة التي تحكمه، وهو بعيد كل البعد عن تحقيق الغاية المنشودة منه “وهي أن يكون أداة لإظهار الحقيقة وحرية التعبير والدفاع عن حقوق الإنسان”.

الانتقائية في تغطية حقوق الإنسان
وتتنوع أشكال التضييق على الإعلام من نظام حكم لآخر؛ بدءاً بامتلاك ماكينات الإعلام ومؤسساته إلى اختيار المواضيع التي تخدم الجهة المسيطرة، إلى توجيه السياسات التحريرية وغيرها… بما تحدده الأنظمة المسيطرة والسلطات القائمة، ففي الغرب على سبيل المثال قد تكون حرية التعبير والصحافة مصانة إلى حد ما من الحكومات والأحزاب بما لا يهدد وجود النظام القائم “الطبقة الحاكمة” وبنيته ومصلحته، لكن هذا الحق يتم طمسه وحتى سحقه في حال كان يشكل خطرًا حقيقيًا على جوهر النظام.

وتقدم تغطية الأحداث والصراعات الجارية في العالم خلال الفترة الماضية خير دليل على ذلك، حيث تلوذ المؤسسات الإعلامية بفلسفاتها وفكرها وخلفياتها السياسية عند تغطية الأحداث الأكثر أهمية من جهة الصراع المهدد للوجود والمصالح الرئيسة.

وتشكل الانتقائية المفروضة في تغطية بعض قضايا حقوق الإنسان والتغاضي عن بعضها الآخر شكلًا آخر من أشكال التحيز والتضييق، الذي تفرضه طبقية الإعلام في وجه حقوق الإنسان التي لا تتجزأ ولا يمكن اعتبارها حقًا خاصًا بدولة أو مجتمع معين.

سياسة التغاضي و”إكراه تكرار حقوق الإنسان”
كثيراً ما تُوجَّه آلات الإعلام لتغطية أحداث صغيرة تحت مسمى حقوق الإنسان، فيما يتم إزاحة أحداث أكثر أهمية وضخامة وتجاهل قضايا تمس حقوق أساسية لمجتمعات أخرى بتدخل السياسات ومصالح الأنظمة، وهو ما يسميها سيكميل “بإكراه تكرار حقوق الإنسان”، ووفقا لسيكميل فإن قصص حقوق الإنسان كافة لا تتناسب مع أهداف جميع المؤسسات الإعلامية، حيث “تحظى بعض حقوق الإنسان باهتمام قوي من قبل التغطية الإعلامية على حساب قصص حقوق الإنسان الأخرى التي لا تزال غير موثقة وغير معلنة إلى حد كبير”.

وتؤكد دراسة أجريت عام 2009 أن بعض أعنف الصراعات لا يتم تغطيتها، ويتم تجاهلها من قبل الإعلام بسبب سياسات معينة، على الرغم من أن الصراع من بين أهم العناصر التي تدفع للتغطية الإعلامية لكنها قد تتغاضى عن تلك الصراعات والتي تسحق فيها حقوق الإنسان بسبب السياسات الحاكمة.

ويقول شومسكي: إن “الدول استطاعت التحكم والتلاعب بالإعلام من أجل الحصول على موافقة العامة على سياسة معينة”، وهذا التلاعب بحسب العلماء يتم عبر المرشحات الخمس وهي: الملكية والمصادر والإعلانات والأيديولوجية والنقد، والتي بدورها تؤثر على اختيار وسائل الإعلام وتضمن أن الخبر الملائم للجهة المتحكمة هو وحده الذي يمكن نشره.

وكما يقول ماكفيرسون فإن “انتقاء نوعية الأخبار يتم بما يتلاءم مع أهداف الصحف الاقتصادية والسياسية والأخبار المتعلقة بهذه الفئات، وكلما زاد التلاؤم كلما زادت احتمالات نشرها”.

كيف يتم ملاءمة الإعلام وحقوق الانسان مع فلسفات الجهات والأنظمة المختلفة؟
وفقًا للعديد من الباحثين، فإن الحكومات تُكيّف سياساتها بخصوص حرية الإعلام من خلال ما يسمى “قوانين شروق الشمس” أو قوانين حرية تداول المعلومات، والتي تُستَخدَم لتعريف وتحديد نطاق المصلحة الوطنية، وتمكين المواطنين من طلب إتاحة المعلومات، ويتم تحرير هذه القوانين بما يناسب مقاس النظام الحاكم وفلسفته.

وقد لا يتسع الحيز هنا لذكر تاريخ التدخل وعلاقة الجهات الحاكمة بحرية الإعلام، لكن قد يكفي أن نذكر أن الصحافة التي بدأت في أوروبا خلال القرن السادس والسابع عشر قامت بالأساس لخدمة النظام والسلطات الحاكمة حينها، وقد كانت مطالبة بالدفاع عن وجهة نظرها.

وفي أوروبا ذاتها التي يحكمها حاليًا نظام رأسمالي ليبرالي، وتدعي الحرية والحقوق المطلقة للإنسان، مرّ فيها حرية الإعلام بتجارب ومراحل طويلة خاض خلالها مدافعون أمثال جون ميلتون ولوك وجون ستيروات معاناة طويلة للوصول إلى ما نسميها حاليا بحرية الإعلام الغربي أو ما سماها ميلتون بـ”السوق المفتوحة للأفكار”.

لكن حتى ضمن هذا النظام لا تتم عملية النشر وملاءمة المضمون بمعزل عن المرشحات الخمس السابقة أو بعضها على الأقل؛ كالملكية التي جعلت الإعلام بيد قلة قليلة، والإعلانات التي تحددها السوق الصحفية، والتي تدار من قبل أصحاب الأموال، والمصادر الإعلامية التي يتم احتكارها… وهذه المرشحات هي التي توجه الإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر إلى قضايا معينة وحقوق محددة لجماعات دون غيرها.

وفيما يخص الدول التي تسيطر عليها أنظمة غير ديمقراطية وفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود، والتي تشكل ثلث دول العالم، فإن حرية الإعلام وقضايا حقوق الإنسان تُحكم بشكل قمعي، وخاصة ما يتعلق بتناول المواضيع الجدلية التي تمس مصلحة السلطات، ويكون الصحفي والناشط الحقوقي فيها عرضة لأشكال مختلفة من التهديد، وفي ظل هذه الأنظمة يمكن أن يتم اعتبار كل ما يهدد مصلحة السلطات “تهديداً للوطن والمواطن وحقوقه الوطنية”.

أما في ظل الدول الاشتراكية، فإن الأنظمة لا تخفي كون حقوق الإنسان تنحصر فيما تحدده الطبقة البوليتارية وفق الرؤية الماركسية، والإعلام كجزء من هذه الحقوق هي أداة تخدم نظرة الحزب الحاكم وفلسفته، ويكون توجيه الإعلام الذي أيضاً يسمى حرًا بقدر ما يخدم هذه الرؤية، من خلال المرشحات السابقة ولكن دون مواربة ضمن مبادئ الفكر الماركسي، والتي ضمنها منع الملكية الخاصة للإعلام وحظر نقد الحزب الحاكم والأهداف الاستراتيجية للحزب والرقابة الحكومية على الإعلام.

مداراة الإعلام للسلطات الحاكمة
ويذهب بعض الدراسات إلى أن الاعتماد على المراسلين المحليين وتراجع عدد المراسلين الأجانب “صحافة القفز بالمظلات” في بعض المناطق من العالم دليلٌ على التستر على بعض انتهاكات حقوق الإنسان في تلك المناطق، والحدّ من المعلومات التي يتم عرضها للجمهور كنوع من أنواع المداراة من قبل الوسيلة الإعلامية للسلطة هناك.

إضافة إلى كل ذلك يشكل خطاب الكراهية وانتشار المعلومات المضللة وغيرها تهديدات حقيقية على دور الإعلام كحق من حقوق الإنسان.

وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فإن “في كل ركن من أركان العالم، تتعرض حرية الصحافة للهجوم. الحقيقة مهددة بالمعلومات المضللة وخطاب الكراهية، وكلاهما يسعى إلى طمس الفرق بين الحقيقة والوهم، وبين العلم والمؤامرة، كما أن ازدياد تمركز وسائل الإعلام في أيدي قلة قليلة والانهيار المالي لعشرات المؤسسات الإخبارية المستقلة، وزيادة القوانين واللوائح الوطنية التي تخنق الصحفيين، كل ذلك يزيد من تضييق طوق الرقابة ويهدد حرية التعبير كحق من حقوق الإنسان”.

الصورة:تعبيرية من النت

By admin-z