خضر الجاسم/ باحث وصحفي
هذه القصة قد تكون أغرب من الخيال… سأروي أحداثها خاصة أني كنت شاهداً على ما عاينته من صدمة غريبة لا تصدق، كان عنوانها ”أنا إنسان مثلك“.
بحكم عملي كصحفي، ذات مرة، رغبت بإجراء قصة صحفية ”فيتشر“ حول قصص إنسانية. قال لي أحد معارفي، أن هناك عائلة في حي ”الحزاونة“، وهو حي يقع جنوب منبج، لديها ثلاث بنات من ذوي الهمم، وربما هم بحاجة ماسة إلى مساعدة عاجلة.
زرت العائلة في بيتها القديم المتواضع، أدخلوني إلى غرفة احتوت ثلاث أخوات كبيرات بالسن، ربطت كل واحدة منهن بحبل طويل حتى لا يخرجن من غرفتهن، صعقت على الفور، ولم أتمالك نفسي من الدهشة. كانت نظراتهن تجاهي تومأ لي بعدم الإشفاق عليهن بينما كن يرمقن أهلهن بنظرات حادة وبازدراء.
ذوو الهمم لم يختاروا قدرهم هذا، فما يعيشونه من نظرة سوداوية ينبع من المجتمع الذي يحملهم مسؤولية إعاقتهم ويتجاهل تفاصيل حياتهم الصغيرة المليئة بالكآبة النفسية والانهزامية الداخلية. هناك كثير من القصص التي تروى عن ذوي الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة) لما يتعرضوا له من تنمر واستقطاب، فهم يشعرون بالرفض والتهميش الذي يفرضه عليهم المجتمع.
لم اختر قدري
تدور على الألسن في الحي أو الأقارب أو العائلة ذاتها عن ولادة مولود بخلقة غير سوية، أقاويل حتى يصبح الأهل محط أنظار الجميع ويتم التحامل عليهم بكل ما يحمله الاستقطاب من بشاعة بغيضة ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تنسج أقاصيص لا أصل لها من البعض حول الجريرة التي اقترفها الوالدان حتى يرزقا بمولودهما على هكذا مشيئة وحال.
لا يخلو الأمر من تهكم على المولود بطرق شتى كأنْ يتحاشى بعض الزوار للمولود حمله وتقبيله كما جرت العادة في مجتمعاتنا خشية أن ينقل هذا التطاير والتشاؤم والفأل إليهم ويقعون بنفس الخطيئة التي يتصورونها حيال الأهل فيما يبدو أنها نمطية سائدة تتوارث جيلاً عن جيل.
في أبسط مواقف الاستقطاب في المجتمع حيث يعتقد أن المرأة التي في فترات حملها الأولى (الوحام) إن اشتهت على أطعمة وشراب ولم يلبها الزوج على ما تريد، فأن المولود سيولد بعاهة جلدية حتى إن كان كذلك، يتم الاستهزاء به على نحو مشمئز مثير للغرابة.
”أنا إنسان مثلك“، هذا هو لسان حال المولود من ذوي الهمم الذين يتعرضون لصور وأشكال مختلفة من التنمر والاستقطاب بسلوك مؤذ من محيطهم بقصد أو بغير قصد، إلا أنه في النهاية هم هدية من السماء ولم يختاروا قدرهم على أية حال.
ثقافة عابرة للكراهية
تسود كثير من المواقف التي تستمد موروثها من ثقافة المجتمع التي جبل في جانبه المظلم على التنمر فيما يختلف عنا في التفكير أو السلوك بما في ذلك الخلقة والشكل. هذه الثقافة لا ترتبط بزمان أو مكان معين، فهي ثقافة عابرة في كل وقت لأن هناك بيئة خصبة لنموها أو استدعائها إذا ما تطلب الحدث.
ذوو الهمم لا يتعاملون مع أقرانهم الذين يعتقدون أنهم عاجزون ولا يملكون القدرة على التحلي بالمواهب التي يملكونها ما يولد لديهم شعور بالرفض والتمييز والتهميش وهو ما يهدد أمن المجتمع بالتجانس حيث من الواضح أن هذه السلوكيات تتطلب معالجة فكرية وثقافية قبل كل شيء.
للأسف، يفرض سلوك الاستقطاب والتنمر نفسه في المجتمع إذ يستمد قوته في التواجد من الموروث الثقافي الذي يتربى عليه الأجيال ويستخدم في حياتنا اليومية وهو مليء بكثير من الألفاظ البذيئة، فعلى سبيل المثال تُطلق المصطلحات على الأشخاص كـ ”الأقرع“، ”المكسح“، ”الأكتع“، ”الأحول“، ”الأوزعة“، ”الأعرج“ بطرق غير لائقة.
كما تستخدم تلك المصطلحات وغيرها في الأمثال الشعبية المتداولة في حياة الناس اليومية كقول ”أقرع ونزهي“ و”الناس مقامات“ للتفاضل بين الأسوياء وذوي الهمم وغيرها من المقولات التي تدعم استمرارية السلوك العدواني وممارسته تجاه شريحة مهمة لا تقل عنا إنسانية في كل شيء.
طاقة لا إعاقة
لا يخلو المجتمع من التمييز بالمعاملة مع ذوي الهمم بدءاً من المؤسسات التعليمية حيث لا يسمح لهم بالتعلم ظناً منها فقدان هذه الفئة لأهليتهم أو عدم قدرتهم على الاستجابة التربوية الفعالة، ولا ينتهي المطاف بالجانب القانوني الذي لا يحمي هؤلاء بل يحمي القانون الأسوياء فقط.
يتكرر الأمر ذاته في الرياضة حيث ينزوي ذوو الهمم على المشاهدة في أحسن الأحوال لعدم وجود أندية خاصة بهم، وأنهم أقل قدرة كي يقوموا بحركات خطيرة لا يقوم بها إلا رياضيون متمرسون رغم أن الأمر في رمته متروك للموهبة لا غير.
نفس المفردات السابقة، بالإضافة إلى العديد من الألفاظ الأخرى، تُستخدم في خطابات الكراهية والاستقطاب. نجد أن هذه الألفاظ تتداول بشكل متكرر على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه ذوي الهمم. وتستخدم بمواقف كوميدية بهدف الترفيه والسخرية منهم والتمييز بينهم حسب خصائصهم أو انتماءاتهم عن الآخرين.
ونفس الأمر نشاهده على الشاشات عبر الدراما والسينما إذ ذهب الكثير منها إلى استخدام التمييز ضد ذوي الهمم للترويج للمنتج، وعلى سبيل المثال تعتمد بعض الأدوار على الاستعانة بأشخاص من قصار القامة أو ”الأقزام“ كنوع من لفت الأنظار إلى هذا المنتج المقدم لخلق شخصية مؤثرة تجذب الجمهور نحو الخط العام للمنتج.
في الواقع، يتم تمييز ذوي الهمم حتى داخل العائلة من حيث المأكل والملبس أو من حيث المعاملة. ينظر الأهل إلى الأسوياء على أنهم يملكون خصال وقدرات تمكنهم من مساعدتهم في تحمل مصاريف ذوي الهمم أنفسهم ما يصيبهم من الإحباط بمقتل. إذا كان الحال داخل العائلة وبالأخص من الوالدين على هذا المنوال، فكيف يكون الحال خارجه؟!
متى يدرك المجتمع أن أسمى ما في العدالة الاجتماعية أن ينال كل ذي حق حقه دون الإجحاف بأي فئة على حساب أخرى؟!. بالمجمل العام ذوو الهمم هم ليسوا أقل من الآخرين في مساواتهم بهم من حيث المؤهلات والقدرات والحظوظ، فهم قبل كل شيء طاقة لا إعاقة.
الصورة : من النت