فخري محمد

لكل ملة ما، أو جماعة ما، هوية وعادات وتقاليد تميزها عن الممل والجماعات الأخرى، ولعل أبرز ما يميز الشعوب عن بعضها هو اللغة، فهي العلامة الفارقة التي تختص بها دونًا عن غيرها، إن كان في المحيط المجاور لها، أو البعيد عنها.

وهذه العلامة الفارقة التي تعرف باللغة الأم، لا تعني بالضرورة التعصب لها، بقدر ما تعني التشبث بها والإنتماء لها، وهذا الإنتماء لا يمنع الشخص من تعلم لغات أخرى، لشعوب أخرى، بهدف التواصل والتعرف على ثقافة المجتمعات المحيطة به.

ولأهمية هذه اللغة، ونضال الشعوب من أجلها، خصصت الأمم المتحدة يومًا عالميًا لها في الحادي والعشرين من شباط/ فبراير من كل عام، وذلك لتعزيز السلام وتعدد اللغات في جميع أنحاء العالم وحماية جميع اللغات الأم.

واختارت منظمة الثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) هذا التاريخ للاحتفاء باللغة الأم، للتذكير بنضال شباب بنغلادش الذين خرجوا للتظاهر عام 1952 مطالبين بالاعتراف بلغتهم الأم البنغالية كلغة رسمية في باكستان بشطريها الغربي والشرقي آنذاك.

وحينها فتحت الشرطة الباكستانية النار على المتظاهرين، ما أدى إلى مقتل خمسة من الطلبة البنغاليين بالقرب من كلية الطب في مدينة دكا، قبل أن تضطر السلطات الباكستانية للاعتراف باللغة البنغالية جنبًا إلى جنب اللغة الأوردية كلغة رسمية للبلاد، مع توسع نطاق المظاهرات في البلاد.

وجاءت موافقة اليونسكو بعد تقدم بنغلادش بطلب في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1999، لإحياء ذكرى طلابها الذين فقدوا حياتهم برصاص أجهزة الأمن الباكستانية، ومنذ عام 2000 يحتفى باليوم العالمي للغة الأم في الحادي والعشرين من شباط/ فبراير من كل عام.

اللغة الأم قبل عام 2011
وفي سوريا آثرت الحكومات منذ عهد الاستقلال عن فرنسا، باستئثار صفة الرسمية للغة العربية، دون اللغات الأخرى للشعوب التي تشكل المجتمع السوري، ومنها الكرد والتركمان والسريان والآشوريين والأرمن، على الرغم من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي صدر عام 1948 ينص في مادته الثانية على أنه لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي أو المولد.

الإعلامي عبد السلام خوجه أكد أن أهمية اللغة الكردية للكرد تكمن في الصعاب التي واجهوها على مر العصور في سبيل الحفاظ عليها، نتيجة المنع الممارس بحقها، والانتهاكات بحق الكرد وخاصة في موضوع اللغة.

ويضيف خوجة أن وجود الشعوب مرتبط باللغة، وعندما تختفي اللغة تختفي الشعوب، ومن أجل قطع الطريق على إفناء الشعب الكردي، تمسك الأخير بلغته، وناضل من أجلها للحفاظ عليها وعلى وجوده.

هذه المعاناة تتقاطع في كثير من الأحداث مع ما لاقاه الشعب السرياني من اضطهاد على الرغم من أنه أحد الشعوب الأصيلة في المنطقة، إذ يؤكد الاستشاري في مركز الدراسات الاستراتيجية السريانية كينو كبرئيل، تعرض الشعب السرياني لضغوط في سبيل محو هويته القومية والثقافية بشكل ممنهج.

ووصف كبرئيل أهمية اللغة بالنسبة للشعب السرياني الآشوري الكلداني بأنها الدرع الأول للحفاظ على وجوده، فمن خلالها يستطيع المرء التعرف على تاريخ الشعب السرياني، الذي كُتب في فترات زمنية سابقة، مضيفاً أن للغة السريانية دور مهم آخر هو توحيد الشعب السرياني المقسم بين طوائف دينية مختلفة، إذ تحميهم من التأثيرات الخارجية.

لم يكن التهميش فقط من حصة الكرد في سوريا، بل وصل الأمر بالأنظمة المتعاقبة على منع تعلم وتعليم اللغة الكردية، وملاحقة ومعاقبة من يحاول أن ينظم ولو درسًا واحدًا لشرح مفرداتها لأطفال الحي أو القرية.

عبد السلام خوجة أكد أن الدروس السرية هذه كان لها الدور الكبير في بقاء اللغة الكردية حية بين الكرد في سوريا، على الرغم من بساطتها، إذ كانت تقتصر على تعلم الحروف وبعض القواعد البسيطة، إلا أنها مهدت لدى البعض الطريق لإتقان اللغة، والذين بدورهم ساروا على نفس الطريق وعلموا صغار السن.

وأشار خوجة إلى الدور البارز في هذا النشاط للأحزاب الكردية وللمثقفين الكرد، إذ ورغم المنع الرسمي من الحكومات السورية لتعليم اللغة الكردية، إلا أن إصرارهم كان شيئًا مميزًا، وأشاد كذلك بعملية طباعة وتوزيع مجلات ومطبوعات باللغة الكردية وتوزيعها سرًا على الأهالي.

المنع الحكومي لنطق اللغة الكردية في الدوائر والمؤسسات الحكومية، تحول شيئًا فشيئًا إلى هواية لدى العناصر الأمنية السورية، حتى حُرم الكثير من الآباء والأمهات الكرد من تسمية أطفالهم أسماء كردية، وزادت في بعض الفترات ظاهرة المواليد ذوي الاسمين، اسم في سجلات الأحوال المدنية يحمل نكهة عربية، واسم في المجتمع والعائلة والمحيط يعبر عن هوية صاحبه الكردية.

القبضة الأمنية المشددة على الكرد، لم تكن بهذه القوة على القوميات الأخرى التي تعيش جنبًا إلى جنب في نفس المدينة إن لم يكن في نفس الحي.

فالسريان الآشوريون والأرمن، صحيح كانوا ممنوعين من تعلم لغتهم الأم في المدارس الحكومية، ولم يكن من المسموح التحدث بها في دوائر الدولة، إلا أن الأخيرة غضت الطرف عن تعليم اللغة الأم لهذه القوميات في مدارسها الخاصة المرتبطة بالكنائس، التي زاد نشاطها في تعليم اللغة للأطفال، ضمن مناهج اختيرت بعناية لتناسب عمر الأطفال في المدارس الابتدائية الخاصة، والتي كان الكرد قد حُرموا من بناء إحداها لذات الهدف.

هذه الحقيقة لم يدحضها كينو كبرئيل لكنه أوضح أن التعليم في المدارس الكنسية كان مقتصراً على الكنائس المشرقية دون غيرها، وكانت الدروس تُعطى حصتين في الأسبوع كحصص إضافية، وكان هذا السماح مقترنًا بحجة أن اللغة السريانية هي لغة دينية خاصة بالطقوس الكنسية، واصفًا واقع التعليم باللغة السريانية في ظل النظام السوري بـ”لا بأس به” باتجاه “السيء”، إذ مُنعت من التداول في الدوائر الرسمية التابعة للدولة.

وأشار كبرئيل إلى وجود تعليم اللغة السريانية في بعض الجامعات، ولكن ليس في كلية خاصة بها، إنما ضمن كلية الآثار، وذلك للحاجة لها نظرًا لكثرة الآثار والمخطوطات الأثرية المكتوبة باللغة السريانية، ورغم ذلك تناقص الاهتمام بهذا النهج شيئًا فشيئًا، على نقيض ما كان موجودًا في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، إذ كان التعليم يتم عبر خبراء مختصين باللغة السريانية.

كما لفت كبرئيل إلى أنه في منتصف العشرية الأولى في الألفية الجديدة قام النظام بافتتاح معهد اللغة الآرامية في بلدة معلولا في ريف دمشق، إلا أن الإهمال كان مصيره، معتبرًا إياه إحدى وسائل النظام لتجميل صورته، وللتقرب من المجتمع الغربي وخصوصًا الدول الأوروبية.

اللغة الأم في ظل الإدارة الذاتية
ومع تأسيس الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، تغير الحال مئة وثمانين درجة، إذ كانت أولى القرارات التي اتخذت هي التعليم باللغة الأم لكافة المكونات، العربية والكردية والسريانية، ونصت على ذلك في العقد الاجتماعي بنسخته الجديدة في المادة السادسة بأن كل اللغات الموجودة في جغرافية شمال وشرق سوريا متساوية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، التعليمية، الثقافية، ومن حق كل شعب أو تجمع ثقافي أن ينظم حياته ويسير أموره بلغته الأم.

فيما أكدت المادة السابعة من العقد الاجتماعي بأن اللغات الرسمية في مناطق الإدارة الذاتية هي العربية والكردية والسريانية.

وحول ذلك أكد عبد السلام خوجه أنه مع تأسيس الإدارة الذاتية اتخذت اللغة الكردية طابعًا رسميًا في الدوائر والمؤسسات التابعة للإدارة الذاتية، وبدأ تعليمها والتعلم بها في المدارس والجامعات، مشيرًا إلى نشوء جيل متقن للغة الكردية.

ورغم مباركته وتثمينه لهذه الخطوة، إلا أنه أشار إلى وجوب استمرار الجهود في تمكين اللغة الكردية في المؤسسات، إذ ما زال البعض منها تنشر أخبارها وقراراتها باللغة العربية، داعيًا إلى استخدام اللغة الكردية، وفرض إتقانها على موظفيها.

وأكد خوجه أنه لا مقارنة بين الوضع الحالي للغة الكردية وفي السابق، فالآن الأطفال يتعلمون الكردية ويتعلمون بها، وهذا أحد أكبر الإنجازات إلا أنه شدد على أهمية تكثيف الجهود من أجل الحفاظ على المكتسبات.

فيما أكد كينو كبرئيل إلى عدم وجود تطور كبير بخصوص اللغة السريانية في ظل الإدارة الذاتية، على الرغم من النقاط الإيجابية في هذا المجال منذ تأسيسها، ومن أبرزها الاعتراف بالشعب السرياني الآشوري الكلداني بشكل رسمي، وفق ما منصوص عليه في العقد الاجتماعي.

وأوضح كبرئيل أنه مع تأسيس الإدارة الذاتية أدرجت اللغة السريانية كإحدى اللغات الرسمية، وبموجب ذلك أُدرجت اللغة السريانية في الأوراق الرسمية وكذلك في اللوحات الطرقية لأسماء المدن والقرى في المنطقة، إلا أن الاهتمام باللغة السريانية تراجع شيئًا فشيئًا من قبل معظم الدوائر الرسمية في الإدارة الذاتية، إلا أنه رفض تحميلها عبء التراجع وحدها بشكل مطلق، إذ توجد أسباب أخرى ومن أهمها عدم وجود المكون السرياني بالعدد الكافي ضمن هيكلية بعض المؤسسات، إلا أنه لا يلغي مسؤولية تلك المؤسسات على التعامل باللغة السريانية أسوة باللغة العربية والكردية.

وأشار كبرئيل إلى أن الإدارة الذاتية أنجزت منهاجًا كاملًا باللغة السريانية منذ سنوات، إلا أنه أعرب عن أسفه لعدم تواجد أي طالب من المكون السرياني في مدارس الإدارة الذاتية، مؤكدًا أنه في السابق كانت تدرس اللغة السريانية كلغة مكون لطلاب المكونات الأخرى من قبل معلمين سريان، قبل أن تقرر هيئة التربية في الإدارة الذاتية باختيار الطالب للغة واحدة للتعلم بها في السنوات التعليمية الأولى.

كما لفت إلى قلة الإنتاج الأدبي باللغة السريانية، مرجعًا ذلك لعدم اهتمام مؤسسات الإدارة الذاتية لعدم تخصيصها ميزانيات خاصة لإنجاز برامج كانت معدة من قبل مؤسسة أولف تاو المختصة باللغة السريانية.

على مر التاريخ هناك دروس مستقاة تفيد بأن الإيمان باللغة الأم من قبل شعبها يبقى هو الدرع الذي يحميها من المتغيرات ومن الهجمات التي تسعى للنيل منها، وهو كذلك الشراع الذي يقود سفينتها نحو بر الأمان والازدهار، فها هي المدارس التي تجاوز عددها الآلاف في مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا تعلم الطلاب اللغة الأم، رغم أن تخيل مدرسة واحدة كانت تفعل ذلك قبل خمسة عشر عاماً ضرباً من الخيال.

الصورة من النت

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version