شفان إبراهيم

أفكر في ثلاث قضايا، رُبما لو نظرنا إليها من زاوية حيادية، لوجدنا شيئاً من الترابط والعلاقة البينية بشكل أو بآخر حول التمييز على أساس الجندرة والنوع الاجتماعي. خاصة وأن اقتحام المرأة لميادين غير مخصصة للعمل العضلي أو الشاق، يُعتبر من أبسط الحقوق الطبيعية التي آن لها أن تتحول إلى روتين وحالة اعتيادية.

الأولى: قالت لي صديقة منذ أيام: لو علمت إن شقيقي قدّ مارس الجنس مع صديقته، هل من حقي أن أقيم عليه الحدّ، ضرباً أو ربما قتلاً؟ حديثها ما بين الجدّية والشعور بالتمييز ضد نوعها الاجتماعي، دفعني للخوض معها في مواضيع وأحاديث لا تزال تشكل أبرز التابوهات المكبلة لحياة المجتمعات الشرقية. أكملت قائلة: الوازع الديني المانع للعلاقات الجنسية خارج الزواج هو واحد للذكر والأنثى، وبالمنطق السليم، لا يجوز أن يكون العكس في القصاص ممنوعاً.
في العموم لم تكن تقصد حقها في ممارسة الجنس خارج الإطار الشرعي والرسمي، لكن عقلها كان يبحث ضمن إطار كتّلة ضخمة من الاستفسارات، التي لا تجد لها إجابات. لتضيف: منذ أيام قُتلت جارتنا على يد زوجها لإنها خانته، فهل يجوز أن يُقتل الزوج لنفس السبب؟

القضية لا تتعلق بهذا التفصيل المهم وحده، إنما تشمل جملة ضخمة من الأفكار والتعليقات التي لا تزال تدور في مخيلة المجتمعات السورية، وكأن عقدًا من الحرب لم يكن كافٍ لتغيير نمطيات العيش والتفكير، وإن بحدودها الدنيا. الغريب أن الحرب لم تأتِ على الأفكار القديمة، والثورة التي لا تغير العقليات والأفكار المكبلة للمرأة هي في صُلبها ثورة ناقصة.

وعوضاً عن الخوض في إيجاد مسارات جديدة لعمل المرأة خاصة في المجال السياسي والاقتصادي، نجد أن الضغوط والحصار يزداد على العنصر النسائي أكثر. مع استمرار الأحاديث التي تدور حول حصر المكانة الطبيعية للزوجة ضمن بيت زوجها، وأن صُلب تعلم المرأة إنما لتصبح أماً متعلمة، هو في جوهره مخاوف من طموحات المرأة بتحقيق ذاتها، وإنقاصًا من قيم أيّ تغييراً منشود في بنية النوع الاجتماعي والتنمر على أسس الجندرة.

كما شدّني حديثٌ دار في إحدى الجلسات-الرجالية الذكورية- الخاصة، بحضور نُخب سياسية وثقافية، التركيز على عدّم الزواج من امرأة تشغل منصبً مهماً، أو ذات راتب عالٍ، أو سيدة تحب الارتقاء على سلم العمل الوظيفي والتعليمي، لإنها تقوي من شخصية المرأة-الزوجة وهو ما يشكل عائقاً أمام استمرار رغبة الرجل-الزوج بالسطوة. وما يمنح الذكورية التحكم بقرار الآخر -الأخت، الزوجة…إلخ غالباً ما يقوم على معيار تحديد الجنس البيولوجي، ليمنح نفسه الأحقية في تحديد القرارات التي تخص الأخر وفقاً لخياله وليس للكفاءة أو الحوار، إنما وفقاً لتمييز الجنسين عن بعضهما البعض، وبالمحصلة فإنه من العبث والظلم الذي يمس حياة آلاف النساء وعيشهن في اللاعدل.

والثانية: خلال الفترة الماضية، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالفلم القصير “خيمة56” حيث تدور أحداثه حول رغبة مقيمات المخيمات في ممارسة الجنس بأريحية وشيء من “الرواق والرومنس” مع أزواجهن. وجل حديث المتزوجات في المخيم كانت تتجه في ذلك الاتجاه، وكان إسقاطًا ناجحًا لحجم معاناة قاطني المخيمات كأحد أبرز احتياجاتهم الطبيعية وخصوصياتهم المفقودة لممارسة الجنس بين الأزواج بعيداً عن أعين المراهقين أو الابناء.

لتقترح النساء إنشاء خيمة خاصة لممارسة الجنس بين الأزواج، بمعدل ليلة لكل زوجين. الغريب في الفلم إنه أزعج شرائح مجتمعية سورية واسعة، ربما لم تكن تكترث للواقع البائس والمزري لحال أبناء المخيمات والمتزوجات تحديداً، لكنها أقحمت نفسها في لحظة ما، مانحة نفسها الحق في ترسيم معالم حياة أبناء المخيمات، وخاصة العنصر النسائي.

وربما اللغط الوحيد في الفلم إنه خُصص بلهجة سكان حوران، وهي واحدة من أكثر المناطق الملتزمة بالفكرة العشائرية القبلية في سوريا، علماً أن أحداث ذلك المخيم في الفلم تكاد تكون نفسها في جميع مخيمات اللجوء الأخرى للسوريين في دول الجوار، لكن المشكلة أن الضغط والمجابهة خصصت للعنصر النسائي وتصويره بشكل مشوه معاكس للحقائق الموجودة في المخيمات.

والثالثة: تسببت أغنية “أز كفوكم” من التراث الكردية للفنان الكردي حسن جزيري من قضاء جرزة في كردستان تركيا، والتي دُمجت بأغنية “خلونا الليلة نغني خلونا الليلة نفرح” من التراث الجزراوي في محافظة الحسكة، للفنان الأرمني السوري “إبراهيم كيفو”، التي غنتها الفنانة السورية أصالة نصري في البومها الجديد “شايفة فيك”، تسببت بجدل واسع لدى رواد السوشيال الميديا الكردية والأرمنية، حيث تعرضت لانتقادات لاذعة وتهم وعدم تقدير المجهود الذي بذله الملحن والمغني الأساسي لها.

التنمر والرفض الذي طال أصالة نصري، صحيح ليس له علاقة بالتمييز ضد النوع الاجتماعي أو ضد المرأة. لكن رُبما كان الأفضل أن يتم مخاطبة أصالة بخطابين متوازنين، الأول: رفض تغييب المجهود والعمق الانتمائي لأصل الأغنية، وخاصة أن الأغنية تشكل جزءًا من الهويّة لدى كل الشعوب، وعادة ما يندرج التراث والفلكلور ضمن المليكة الخاصة أو العامة التي تحميها الدولة، وثمة دول تمنع وتحرم استخدام تراثها خارج حدودها، وماذا يفعل الكرد والأرمن الذين لا دول لهم، ولا دول تحميهم أو تصون هويّاتهم وخصوصياتهم.

والثانية شكر أصالة لإنها حركت المياه الراكدة في بحيرة هوس طمس الوجود القومي للشعوب المغايرة في سورية، وهي أول امرأة تقوم بذلك، وبالمحصلة فإن التنمر طال فنانة، ولم يتم التعامل مع تصحيح الخطأ بالطريقة ذاتها حين ورود ذلك الخطأ. لكن ضمن السياق الفني فإن التمييز ضد النوع الاجتماعي موجود ضد الفنانات الكرديات على خلفيات انتمائهم، ولم يسبق أن تمتعت فنانة كردية بحقوقها الإعلامية لدى المنصات الإعلامية للآخر، وهذا الإقصاء كان ولا يزال بسبب الانتماء القومي لذلك النوع الاجتماعي، واشتركت الكرديات في التهجم على أول سيدة تتحدث عن تراثهم، لكن لا أحد منهن شكرها بعد تصويب الخطأ.

حيثيات القصة، والفلم، والأغنية تحمل وحدة حال هويّاتي بين غالبية النساء عامة، وأهالي سهل حوران والكرد خاصة، فالعقوبات دوماً ما تقع على المرأة وحدها، وغالباً ما تكون هي الحلقة الأضعف في كافة منظومة التعاملات اليومية البينية، والتمييز دوماً وأبداً قائم على النوع الاجتماعي، ولا قانون اجتماعي أو عرف عشائري يعمم على الطرفين معاً.

والحوارنيون شعروا بالإهانة بسبب لهجة الفلم، بالرغم من إن أحداث الفلم تجسد قصص حقيقية وواقعية للفارين من جحيم الحرب، دون تخصيص ذلك لأبناء لغة أو هويّة أو قومية أو مخيمات بلد لجوء محددة دون غيرها، خاصة وأن عصّب الاعتراض جاء على أدوار السيدات في الفلم دون موقع الرجال في ذلك. وهو بطبيعة الحال ربما يشبه حال الكرديات والعربيات وكل النساء في معظم مخيمات اللجوء السوري في الشتات.

وتشعر السيدات من الهوية الكردية بمعاناة وتهميش أطر الفن والثقافة والإعلام السوري لهن، عبر وزاراتها المخصصة، وهو الشعور عينه المتولد مع مؤسسات المعارضة السورية، وفي الوقت الذي تشتكي الكرديات السوريات بفقدان الترميم العميق للجروح المثخنة في جسد هويتهم وقضيتهم، وجدوا فنانة بوزن أصالة نصري المنتمية إلى ثقافة ولغة وهويّة مختلفة تغني إحدى أكثر الأغاني الكردية تداولاً في مخيالهم التراثي والفلكلوري والأعراس والمناسبات المختلفة، لكنها امتزجت بحساسية مرتفعة جداً نتيجة عدّم ذكر المصدر، قبل أن تبادر للتصحيح، ودون أن تتلقى الشكر على استدراكها العاجل.

من جهة أخرى، يرمز قسم من ردات الفعل على الفلم وواقع المرأة الحالي لبؤس العالم الذكوري، الذي يجتاح حواضن وعوالم خصوصيات عمل المرأة وحياتها، خاصة وإذا علمنا أن الفاعل الأكثر حركية عبر السوشيال ميديا، أو الأحاديث المجتمعية، في كثير من الأحيان يدور حول جسد وحجاب وتعليم المرأة. في الوقت الذي تخطت المرأة وعبر عملها ودراستها وشغلها للمناصب الخطيرة والمهمة تلك النمطيات المجحفة بحقها. لكن لا تزال السطوة الذكورية تسعى للسيطرة على تفاصيل وتفاعلات حياة المرأة، لتتكور في النهاية إلى سؤال يُمثل عُمق تلك المعاناة. لماذا يعتبر بعض الرجال أن من حقهم أن يقرروا عوضاً عنها مختلف خياراتهن وتفاصيل حياتهم؟

علماً في ظل الظروف الراهنة، فإن التمييز بين الجنسين وفقاً لذلك المعيار إنما هو ضرباً من العنصرية والتمييز ضد المرأة، حيث آلاف النساء يعلن أسرهن ويساهمن في تربية الأطفال، عدا أن نتائج تاريخ الطلاق في المجتمع السوري يميل لصالح المرأة السورية في تربية أبنائها والبقاء معهم إلى مراحل عمرية متقدمة، كحال الأطفال الذين توفي الأب ولم يترك مدخولاً لضمان حياة أبنائه من بعده. تلك الشرائح من المطلقات والأرامل وقسم من العازبات، هنَّ من يعلن أسرهن وأبنائهم وأحياناً أخوتهم أيضاً، وهنَّ عُمق وحيوات وجود مجتمعاتنا، والحفاظ عليهن لا يتجزأ من الحفاظ على هويّة هذه البلاد المرهقة من كل شيء.

شفان إبراهيم كاتب صحفي

الصورة من النت

By admin-z