خضر الجاسم
تداول الصورة النمطية عن الإنجاب في المجتمع العربي لم يعد غامضاً أو مصطلحاً مبهماً وعصياً عن البحث والدراسة أو مجهولاً كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. فبحكم تقادم الزمن فإن المجتمعات تنزع إلى التطور والانفتاح على كل وسائل الحداثة، التي ما من شك أن مواقع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا المتقدمة والتطور العلمي أدت إلى تسليط الضوء على الواقع السوداوي المتردي للصورة النمطية بكل أبعادها عن كثب، إلا أن جوانبها المظلمة لا تزال متجذرة في أعماق الذهنية المجتمعية، التي يصح القول معها بأنها تحتاج إلى معالجة بشكل عاجل.

التلوث الإدراكي لمفهوم الإنجاب
وعلى الرغم من التطور الهائل في كل المجالات في المجتمع العربي خلال العقود الأخيرة، إلا أن ذلك لم يشفع بأن الصورة النمطية أو الطوطم العربي عن الإنجاب بات مشكوكاً فيه وبأمره من خلال تناول قدسية الإنجاب بالشكل الغريزي الفطري. ووفقاً للكاتبة “نوال السعداوي”، فأن المرأة في العالم العربي تعيش على أنها مخلوق لا جنسي، وتربى طوال سنوات ما قبل الزواج على أن لا رغبة لديها في الجنس. الحقيقة مريبة للصورة النمطية للإنجاب التي أحالها الرجل إلى آلة غريزية إذ أخرج هذه القيمة النبيلة التي كانت فيما مضى تعادل قدرة الآلهة على الإخصاب والحياة والتكاثر إلى مفهوم مطاطي أصيب مع الوقت بالتلوث الذهني والعقلي؛ نتيجة التشوهات الإدراكية المعرفية والاجتماعية، التي صارت عبئاً على كاهل المرأة العربية من أكثر أي وقت مضى.
وتكثر في العرف العشائري العربي الكثير من الأقوال والمأثورات التي درجت على الألسن العامة والتي تعكس النظرة السلبية من إنجاب الإناث من مثل: “يا جايبة البنات يا شايلة الهم للمات”، و”موت البنات سترة”، و”يا أبو البنت ما تعوزها مصيرها لبيت جوزها”، وقالوا في المثل: “ولما قالوا غلام انسند ضهري وقام، ولما قالوا بنيّة انهدت حيطة عليّ”. ولا شك أن هذه الصورة ما كانت تصل إلى هذا المستوى المتأزم لولا وجود ما يسوغ وجودها وشيوعها مثل العادات والتقاليد والعشائرية والتخلف.

الفحولة للرجل والألم للمرأة
تحاط الأنثى في العرف الاجتماعي العربي بالصورة النمطية المرتبطة بالجنس منذ صغرها، إذ تعتاد على أن يكون لها دمى تعزز ارتباطها بوظائفها الأنثوية، التي تعيشها في كنف أسرتها، وحين تكبر يمارس عليها نفس الجانب التي كانت تصنعه مع الدم، وإنما هذه المرة من قبل وصاية النظام الأبوي. ولا تحظى الأنثى منذ صغرها بالتقدير المناسب أو الملائم من حيث الرعاية والاهتمام الذي يختصر الصورة النمطية للإنجاب في الأنثى على أساس التكاثر، بينما لدى الرجل تعد مظهراً للفخر والاعتداد بالكثرة أمام العشيرة والآخرين؛ نظراً لمفاخرتهم بعددهم في مجالسهم وآدابهم وأشعارهم الجاهلية.
ومنذ القدم ارتبطت الصورة النمطية للإنجاب عند المرأة العربية بضعفها فيما يوصف الرجل على النقيض من هذا بالفحولة احتفاء بقدرته على إنجاب الأبناء النجباء الكثر التي ترتبط بالفخر والحماسة، فموضوع الإنجاب الكثير هو لإثبات فحولة الرجل وضرورة تستلزمها البيئة العشائرية التي تبحث عن المولود الذكر من أجل الصراعات والنزاعات العشائرية، وهو ما حصل مع الشاعر الجاهلي عنترة الذي نسب لأبيه على الرغم من كونه ابن أَمَة؛ نظراً للشجاعة التي أبداها بالقتال في المعارك دفاعاً عن أفراد قبيلته عبس، بينما أمه التي أنجبته لم تنل من هذه الصورة النمطية للإنجاب غير العار.

هوّة في المفهوم وفجوة في الذهنية
لم يتغير الحال للصورة النمطية للإنجاب للنساء العربيات في عهد الإسلام الأول، إذ اعتبرت الذهنية العربية الأنثى عبئاً مادياً ومعنوياً يُثقل كاهل أبيها على الرغم من المثل والقيم، التي جاء بها الإسلام إلا أنه لم ينتصر للمرأة وخاصة العربية بل ازداد الأمر سوءاً أكثر؛ نتيجة تفسيرات وتحليلات رجال الدين التي لم تنسجم مع الحكمة الإلهية التي أرادها الله من سن تشريعي ما لصالح المرأة، ولا نبالغ إذا قلنا بأن الصورة النمطية أخذت حيزاً من التوسع المفاهيمي لكن بطابعها السلبي لا سيما مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية في الأمصار المختلفة، عبر إقامة أسواق النخاسة لبيع الإماء والجواري. فمثلاً زخرت كتب التراث العربية من كتب أخبار وأيام العرب بالكثير من الروايات والقصص والأخبار عن إهداء الجواري أو بيعهن فيما بينهم لقاء عدة أبيات من الشعر أحياناً في استعطاف أو مديح خليفة أو أمير أو وزير أو قائد عسكري.

عصبية قبلية في مفهوم الصحة الإنجابية
العصر الحديث كان أقل كلفة للصورة النمطية للنساء العربيات عن الإنجاب، لكنه كان أكثر شيوعا للمفهوم بحكم ما نقرأه في الكتب عن هذه الصورة، وكأن لسان حالنا قد يكذب أو يصدق ما جاء فيها من نماذج متنوعة، لكن ما يثير استغرابنا بأن الصورة النمطية تحدث في الوقت الراهن على الرغم من نيل معظم المجتمعات الغربية كامل الحقوق المدنية والحريات العامة والعدالة الاجتماعية والمساواة للمرأة والرجل، فيما بقيت الصورة النمطية نفسها في المجتمع العربي أو تراجع مع تصاعد التيارات الراديكالية واليمين المتطرف أو الدعشنة.

وتتوارد إلينا عبارات من البعض في ظاهرها الاستعطاف وفي باطنها الازدراء للمرأة؛ لعدم قدرتها على الإنجاب من مثل: قول فلان لأحدهم: “ربنا يعوض عليك بالخلف الصالح”، “متى نفرح بأولادك؟”، “زوجتك لا تنجب سوى بنات”، “ينبغي أن تتزوج أخرى لأن زوجتك لا تنجب سوى الإناث”، والكثير مما شابهها التي لا تحمل في ظاهرها حباً أو اهتماماً، وإنما تحمل في باطنها التدخل بحياة وخصوصية المرأة فقط.

والأغرب من كل ذلك هو كيل الاتهامات والآراء الغريبة عن الإنجاب بالطرق الطبيعية للمرأة العربية، والتي قد تصل إلى حد التدخل في الخصوصيات من الأقارب وحتى المعارف إلى حد السخافة والاشمئزاز والتنظير. زوجتي كانت إحدى اللواتي زرن عيادة نسائية منذ فترة قصيرة بهدف العلاج من مرض نسائي، تقول إن إحدى المريضات الجالسات أثناء تواجدها في العيادة بانتظار دورها، قالت لها: إن زوجها هددها أن لم تنجب ولداً فسيطلقها لا محالة ويتزوج بامرأة تلد ذكوراً على حد تعبيرها، وأضافت بأن العيادات النسائية في المناطق العربية تكتظ بالنسوة اللاتي يذهبن للعيادات النسائية بغية طلب ولادة ذكر أو مراقبة حمل بذكر أو إسقاط حمل بأنثى.

التنظيم الأسري بين المسموح والممنوع
ولا تقف الصورة النمطية عن الإنجاب برغبة المرأة العربية باختياره، إذ لا تملك القرار في حق لا تملكه (تنظيم الأسرة) لأن ذلك عادة يرتبط بالنظام الأبوي والسلطة الدينية والعادات والتقاليد. وفي المقابل، يعتبر الرجال قرار الإنجاب مرتبطاً بسلطتهم على المرأة، ومكانتهم في العائلة بذريعة “هل من أحد يمنع نعمة الله!”، “الأولاد نعمة من الله، وفي وقت ترفض فيه النساء هذه النعمة، تبكي أخريات للحصول عليها”، “الولد يجيء وتجيء رزقته معه”، وهي عبارات تُواجَه بها النساء العربيات عند رفضهن الإنجاب، في ظل التهديد بالزواج بأخرى في حال استمرت بالرفض.

وفي ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية التي تمر بها سوريا يبقى (تنظيم الأسرة) أمراً ملحاً في وقت تعجز معظم الأسر السورية عن تأمين قوت يومها بشكل يسير، وتتعرض المرأة باستمرار لضغوط نفسية قد تتسبب بالعديد من الأمراض النفسية التي يمكن أن تعاني منها؛ كاكتئاب ما بعد الولادة، الأمر الذي يدفعها لإهمال نفسها وجنينها وعائلتها بأكملها، كما يمكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى الانتحار.

وتروي فلانة بأن عدم إنجاب ذكر -كون لديها ثلاث بنات- دفعها إلى اللجوء إلى طرق الشعوذة بعد فشل الأطباء علاجها لإنجاب ذكر، وأنها لن تترد بدفع أموال للمشعوذين إن نجح الحمل بذكر؛ لأن ارتباطها بزوجها سيكون محتوماً بالطلاق إذا ما تم مخالفة هذا الواقع المظلم.

وأخيراً لتحقيق العدالة الجندرية في قضية الإنجاب في المجتمع العربي، فإنه ينبغي مكافحة هذه الصورة النمطية عبر تعزيز التماسك المجتمعي والتركيز على الصحة الإنجابية، وتنظيم النسل، بالإضافة إلى التخطيط المسبق لقرار الإنجاب، ووضع سلطة اتخاذ قرار الحمل أو منعه بيد النساء ما يضمن حقهن ويرفع نسبة الوعي لدى المجتمع خاصة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية.

خضر جاسم : كاتب وباحث صحفي

الصورة تعبيرية من النت

By admin-z