نور الاحمد

“المرأة مكانها المطبخ”
تنتشر هذه العبارة في الكثير من دول العالم بما فيها الدول التي تدعي الديمقراطية منها، فما لكنّ بمنطقة الجزيرة السورية التي مازال يسيطر عليها الفكر الذكوري والسلطة الأبوية والتي في كثير من الأحيان لا تحصر نساءها فقط بالمطبخ، بل لا تعترف بوجودها مطلقاً.
تنميط النساء في شمال شرق سوريا ووضعهن في إطار المنزل والمطبخ على وجه التحديد، مازال ومع كل أسف منتشراً في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة، فما سبب ذلك التنميط وما الذي دفع ذكور تلك المناطق والنساء الذكوريات منهن أن يصوروا النساء بصورة نمطية واحدة، تُحارب من تخالفها؟!

عمل النساء عبر التاريخ
من يقرأ قليلاً في تاريخ البشرية سيلحظ بدون بحث معمق أنه وقبل آلاف السنين كانت النساء مصدر للتكاثر، وكان عملهن مقتصراً على المنزل وتربية الأطفال، يقضين ساعات اليوم الطويلة بانتظار رجالهن الذين يذهبون للصيد منذ إشراقة الشمس وحتى الحصول على فريستهم المبتغاة، هذا ما كانت عليه البشرية الأولى قبل التحضر والتطور التكنولوجي والتقدم العلمي على كافة الاصعدة فيما يثير الاستغراب هو استمرار هذا الفكر في كثير من دول العالم وخاصة هنا في شمال شرق سورية!

هناك من يدعي أن وجود مثل هذا الحصر لعمل النساء ولو كان بشكل متحضر هو فقط في الدول التي يلقبونها بالنامية أو الفقيرة أو غير المتحضرة، وهذا وإثبات الكثير من وسائل الإعلام الغربية ومن قطن في ديارهم وهم أنفسهم، أن حصر عمل المرأة على أعمال المنزل وأداة للتكاثر هو قائم رغم كل ما حدث وما سيحدث.

من المؤكد أن صورة الإنسان القديم قد تغيرت في شكلها فأخذت آخر متحضر أكثر لكنها في المضمون واحدة، فمثلاً استغراب بعض المجتمعات من عمل نسائه في أعمال لا ترغبها الكثيرات، هو بحد ذاته حصر لهن في مكان واحد لا سواه.

دور نساء شمال شرق سوريا في سوق العمل
مازال عمل النساء في شمال شرق سوريا محصوراً في أعمال معينة دون غيرها، وفي أحيان أخرى تحرم نساء هذا المجتمع من العمل اطلاقاً، ولعل أكثر ما يسود أفكار قاطني تلك المناطق هو حصر نسائهم بأعمال المنزل ورعاية الأطفال، ربما سببهم في ذلك هو الحنين للماضي… لآلاف السنين، غاب عن ناظرهم إننا شارفنا على دخول عام ٢٠٢٣.

وما إن عدنا لما قبل الأحداث السورية، أي قبل أكثر من عشر سنوات، فإننا نجد نساء هذه المناطق ككل شيء فيها (مهمشة) عن عمد أو بمحض الصدفة، وما إن سُلط الضوء عليهن فقد كانت النساء بصورة نمطية واحدة، كامرأة ترعى الأغنام وتسكن خيمة سوداء وتختبئ خلف عازل يفصلها عن ذويها من الرجال.

ما حدث بعد هذه السنوات الطوال من النزاع وإن لم يكن بصورته المثلى ولم يحقق ما تصبو له كل امرأة طموحة في هذه المنطقة، إلا أنه وإلى حد كبير يعتبر نقلة نوعية سواء على صعيد الفكر أو العمل على الأرض لنساء هذا المجتمع.

فقد بدأت نساء شمال شرق سوريا الانخراط في سوق العمل بكافة مجالاته، ورغم ما تقاسيه كل يوم من حرب نفسية وصعوبة في تطوير الذات والعمل لكنها استمرت إلى يومنا هذا بإثبات ذاتها رغم كل شيء.

تنوع أعمال نساء شمال شرق سوريا

أن ترى امرأة في الخمسينيات من عمرها تحمل سلاحاً وتقف عند مدخل جادتها، لتدافع عن منزلها ومنازل جيرانها من أي خطر محتمل عليهم جميعاً، هو أمر يجعلك وإياي أن نصمت كثيراً وننثني لها ولكل من ساوت نفسها مع الرجل في الدفاع عن النفس والبلاد.
وهذا ما صوره المصور رودي تحلو يوماً، مفاجئا جميع من نظر لهذه المرأة.
لم تكن تلك المرأة وحدها، بل وانخرطت الكثير من الفتيات في الأعمال التي تتطلب جرأة وقوة قلب كما يقال، وحملن سلاح متأهبات لأي خطر لكي يدافعن عمّن لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ورغم تعرض من تدخل في هذا المجال لنقد أكثر من أي عمل آخر لكن سمو ذلك الدور دفعهن للاستمرار.

انخراط النساء في العمل العسكري لم يكن بشكل كبير إذا ما قورن بعملهن في المجالات المدنية وليست تلك التقليدية كالتدريس أو الطبابة أو الهندسة فهذه كانت متداولة منذ سنوات طوال، فنرى اليوم نساء تلك المناطق قد وصلن لترأس أهم المؤسسات واستطعن فتح مشاريعهن الخاصة الناجحة أيضاً.

العقبات التي تواجه النساء في سوق العمل
رغم انخراط نساء شمال شرق سوريا بكل مجالات العمل وإثبات جدارتهن ومحاولة تحقيق العدالة بينهن وبين الرجال، ومع تفوقهن في بعض الأحيان على الرجال أيضاً وذلك لأن النجاح لا يعرف جنساً، إلا أن وجودهن في سوق العمل مازال في بدايته، وربما أكثر ما يعيق التوازن في سوق العمل هو الجهد الإضافي للنساء في تلك المنطقة، لأنْ لا تتم محاربتهن وما إن وصلن لمكان معين حاولن ساعات باستمرار إثبات الوجود والنجاح كيلا يتعرضن للنقد.

تعتبر المجتمعات التي يقوم فكر شعبها على تأطير النساء في مكان معين دون آخر، هي أكثرها محاربة لمن تريد العمل أو التفوق، فنجد الدائرة الضيقة للفتاة تحاربها وتمنعها بكل الطرق من ممارسة ما يحلو لها أو بكل بساطة أن تعمل بمجال تحبه أو قد تتعرض لكل أشكال العنف لرغبتها فقط بالعمل والخروج من المنزل.
لم يكن طريق النساء العاملات والناجحات اليوم في هذه المناطق مفروش بسعادة حمراء وورود بيضاء، بل كان العنف الأسري والنقد المجتمعي والتحرش اللفظي أو الجسدي سيد الموقف، فإن كان طريقها للوصول من دائرتها الضيقة سهل فليس بالضرورة أن تجد فرصة عمل دون تنازلات وإن وجدت تبقى في حالة تأهب كيلا تتعرض لابتزاز أو تحرش أو غيرهما.

ورغم كل تلك العقبات التي تواجهها النساء ليعملن ويثبتن أنفسهن ويعتمدن عليها، إلا أنهن أدركن في السنوات العشر الأخيرة وأكثر من ذي قبل قيمة العلم والعمل، ولعل جدير بالذكر دور الإدارة الذاتية التي دعمت وجودهن وتمكينهن إضافة لبعض المنظمات النسوية والمدنية التي عملت على زيادة الوعي المجتمعي للنساء.

دور الأزمة الاقتصادية على عمل النساء
يقال “ربّ ضارة نافعة” ولعل الأحداث السورية القائمة والأزمة الاقتصادية وزيادة نسبة النساء المتواجدات في البلاد مقارنة برجالها الذين منهم من قد هاجر أو مات في الحرب أو ذلك القابع في المعتقلات والسجون، مما دفع نساء المنطقة للتحرك.

أن تنظر الفتاة لوالدها الذي قد أضناه التعب محاولاً توفير قوته وعائلته اليومي دون أن تحرك ساكنا هو ما دفع الكثيرات لسوق العمل، كل على حسب قدراتها وخبراتها، حيث تعلمت من لم تكن تملك اي أرشيف من الخبرة والدراسة.

إقبال النساء على التعلم والتطوع لتطوير الذات وبالتالي إيجاد فرصة عمل جيدة تعيل بها نفسها وذويها وتطور نفسها بعد ذلك، هو الصفة الطاغية على الكثيرات من نساء شمال شرق سوريا.

توفر فرص العمل الكثيرة والتي تستقطب النساء بشكل كبير، دفع الكثيرات للخوض في هذه التجربة، ولعل الكثيرات قد برزن للنور ومنهن ما زلن خلف الظلام، لا يعرف عنهن وعن نجاحاتهن شيء سواهن.

الإعلام ودوره في الإضاءة على النساء:
بدأت النساء الجزراويات اللاتي يمثلن لوحة متعددة الألوان على اختلاف قومياتهن وأديانهن وأشكالهن وفكرهن، الظهور على الإعلام المحلي والعالمي.
ولعل أكثر ما ساهم في تسليط الضوء عليهن هو دخولهن رغم كل الرفض المجتمعي والنظرة النمطية لهن، إلى مجال الإعلام وإثبات ذواتهن فيه إلى حد الوصول لترأس أهم وكالات الأخبار العالمية والمؤسسات الإعلامية وحصولها على جوائز عالمية.

من امرأة تواجه صعوبات للبقاء أياما خارج منزل أبيها أو زوجها لتغطية النزاع، وأخرى تسأل رجال غرباء في الشارع عن مواضيع صحفية ونظرة المجتمع المستنكرة لهن لنساء في كل مجال.

ورغم أن الصحافة في كل أنحاء العالم تغطي أقل من ٥٠ % من مواضيع النساء إلا أن الكثير من المهتمات بالقصص النسوية سلطن الضوء عليهن، كشبكة الصحفيات السوريات التي خصصت هذا العام وبالاشتراك مع منصة مساحة لإنتاج سلسلة حلقات يتحدثن بها عن أعمال النساء المختلفة في هذه المناطق تحت شعار #هذا شغل نسوان، لإثبات أن ليس هناك عمل خاص بالرجال وآخر للنساء

صبحة الحسن التي افتتحت محل لبيع الدجاج، مواجهة بذلك المشروع الرفض المجتمعي لوجودها كسيدة في مثل هذا العمل، لم يتوقف الأمر على الحسن فهناك معلمة الشوي فاطمة الكسار والبائعة المتجولة صباح الناصر وفاطمة الحمزة صانعة حلويات ومثلجات وسعادات خليل المديرة التنفيذية لجمعية للأيتام ودليار حسن مدربة التايكواندو وغيرهن ممن حاولن تغيير الصورة النمطية في المجتمع.

ورغم كل هذا التفوق الملحوظ لعمل النساء إلا أن بقاء الرفض المجتمعي له مثير للاستغراب، فإنها وإن عملت في أي عمل لم يعتد للنساء العمل به ستثير الشفقة والكثير من الشتائم لذويها كما حصل مع سيدة نشر عنها خبر في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تكفلتها منظمة إغاثية لأنها تعمل كرجال الحسكة في أعمال البناء.

تزايد وجود النساء في سوق العمل وتحديهن لجميع العوائق و صبرهن على النقد المجتمعي والعقبات في أعمالهن إلا أن المؤشرات جميعها تشير على طريقهن وإن كان صعباً، إلا أنه مبشر بالخير وعلهن أن يبنين البلاد كما فعلت الألمانيات يوماً.

نور الاحمد : كاتبة صحفية

الصورة تعبيرية من النت

By admin-z