بقلم رغد المطلق

لطالما ولدتِ أنثى في الشرق الأوسط فـشبح “الصورة النمطية” سيرافقك طيلة حياتك، لكن أن كنت تنتمين لبيئة عشائرية عربية تحكمها عادات وأعراف منذ عقود، فهنا ستدفعين الضريبة الكبرى، لربما تبدأ من زواجكِ قاصرا ولا تنتهي بحرمانك من أبسط حقوقك ووضعكِ في صندوق هيهات الخروج منه.

عندما نتحدث عن الصورة النمطية التي ترسخت بعقول مجتمعاتنا عن المرأة العربية من بيئة عشائرية، علينا أن نحدد العامل الرئيسي الذي ولّد هذه الصورة، و أشكال التنميط تجاهها بقيوده المنسوجة عبر الزمن، والذي جعل المرأة في وادٍ وكل ما يحصل واقعياً في وادٍ آخر!.

ومن المعلوم أن العامل الرئيسي الذي ولّد الصورة النمطية عن المرأة التي تنتمي لبيئة عشائرية، كان الحكم الصادر عنها استناداً لأفكار مسبقة وتصويرها كـ”كائن ضعيف، أمية و غير مثقفة، محدودة الفكر”، و تم الاعتماد على التعميم والتجريد، ولم يتم مراعاة الفروقات الشخصية بين كل امرأة و أخرى، وولدَ ذلك أشكالا للتنميط حرمت المرأة من حقوقها الإنسانية وصلاحياتها الحياتية، لينتهي المطاف بواقع تبقى تلك المرأة حبيسة كهوفه ودهاليزه… لا تسمع فيه ولا ترى.

ويبقى الاستفهام يدور حول من السبب في ذلك، فنجد التعليل بالحلقة الأصغر بالمجتمع وهي “الأسرة العشائرية”، كون النظام الأبوي المتجذر بالعشائر جعل المرأة “حبيسة دارها”، لا تعليم خارج المدينة التي تقطن بها، ولا سفر، وحتى العمل وضعوا له قوالب، ومن المسموح أن تمتهن مهن محدودة الإطار تمنعها من الاختلاط بالجنس الآخر والتنقل، كالـخياطة وصالونات الحلاقة النسائية، وربما العمل بالأراضي الزراعية كالفلاحة، كل هذا “قرباناً لأعراف العشيرة” التي ينتمين لها.

من هنا ولد شبح الصورة النمطية عن المرأة العشائرية في المجتمع، وجعلها بعيون الآخرين “ضلع قاصر محدود القدرات”.

لكن هذه ليست النهاية، فـرغم كل ذلك منهن من كسرن الصندوق من خلال مشاركاتهن في المنبر الإعلامي واستطعن أن يصرخن بأنهن “ضلع قادر وليس قاصر”.

خُضنَ تجارب كسرن من خلالها قوقعة النمطية
دوماً ما يكون عمل المرأة وإثباتها لنفسها محط اهتمام وتركيز، خاصة إذا كانت قد انخرطت في أعمال غير معتادة بالنسبة للوسط المحيط الذي نشأت فيه، فما بالكم إذا كانت هذه المرأة هي امرأة شرق أوسطية عربية تنتمي لبيئة عشائرية، وهنا تزداد الضغط على كاهلها لإثبات نفسها من جهة، والإبداع في المجال الذي تعمل ضمن مضماره وسعياً لـكسر “الصورة النمطية” التي رسمت لها ضمن بيئتها.

فظهور سلام سلطان إعلامية من بيئة عشائرية على شاشة تلفزيونية؛ لتقديم نشرة أخبار سياسية شكّل صدمة عند البعض من محيطها العائلي، وامتعاض عند البعض الآخر، وخوفاً عند هذا وانزعاج عند ذاك، فالعمل الإعلامي لفتاة تنتمي لعشيرة أمر مستغرب لدى البيئة العشائرية التقليدية في بلد تدار به حرباً دامية وطاحنة.

وعلى الرغم من ارتداء سلام سلطان للحجاب والتزامها بأعراف وتقاليد العشيرة التي تنتمي لها، إلا أن ذلك لم يحمها أو يمنعها من سماع الانتقادات اللاذعة من قبل محيطها، كونها كسرت قوقعة النمطية وقولبة المهن التي وضعت لكل من خلقت في بيئة الأعراف والتقاليد.

تقول سلام: عائلتي بالبداية عارضت المجال الذي اخترته واختارني، خشيةً عليّ من الأوضاع الأمنية والسياسية كون لكل وسيلة اتجاه وأدلجة سياسية مختلفة عن الأخرى، إلى جانب خوفهم من ردة فعل الوسط العائلي والمقربين، كوني كنت أظهر بالصوت والصورة، وهذا أمر جديد ودخيل عليهم”.

لكن إصرار سلام على الإكمال في مسيرتها الإعلامية رغم نمطية المجتمع عن المرأة جعلها قادرة على كسب ثقة وتشجيع عائلتها لها، ووجهت الإعلامية رسالة لكل امرأة تطمح لوضع بصمة خاصة بحياتها وتكون فعالة بالمجتمع، “أن تحاول العمل على أهدافها بشكل مرحلي خطوة بخطوة، وتضيف سلطان بأن الفشل في البداية لا يعني نهاية الطريق لأنه لا يوجد نجاح دون المرور بفشل”.

كسر قوالب العشيرة “خطيئة”
ولطالما وضعت أعراف العشيرة نساءها بين كماشتي رقيب وحسيب منذ الصرخة الأولى لهنّ، ورغم الغُبن الذي يطال نساءها في كثيرٍ من أوجه الحياة، إلا أنّ الأمر كان مختلفاً بالنسبة “لي” نوعاً ما، فالانفتاح والمشاركة بتيارات ونوافذ الوعي “الحقل الإعلامي والمجتمع المدني”، كان يصف بالـ”تمرد” على الأعراف التي تسلطت علينا لسنوات.

و رغم ما يحمله “التمرد” الذي أعنيه من روحٍ شجاعة تعتنق مذهب المغامرة وكسر القوالب النمطية ليس إلّا، إلا أنه اقترن كصفةٍ “مذممة” إذا ما اتصفت به “فتاةُ العشيرة”، إذ ليس بالضرورة أنّ من يمتعض من التمرد يكون من الجنس الآخر، بل هناك العديد من النساء متمسكات بالأعراف أكثر من “زعماء العشيرة” وشيوخها.

وهذا التزمت كان أول ما واجهته خلال الأيام التي كنت أجبر بها على النوم أياما وأسابيع خارج المنزل بحكم عملي الميداني وتنقلي بين المدن، كانت إحدى قريباتي تردد دائماً “عيب عليها هالشغل… نحن عرب”، الأمر الذي يضع والدي في حيرةٍ من أمره ويسبب له ضغوطاً ومضايقات تحرّضه ضد المجال الذي اخترته، بالرغم من أنه هو من شجعني في البدايات ولربما حتى الآن.

ومن جملة الكلام الذي اعتدت أن يطرق أسماعي من والدي والمقربين كلما سنحت الفرصة بذلك “نحن عرب و أنتِ بنت عشيرة ومعروف أصلك و فصلك.. تحجبي واشتغلي”، وهو مطلبٌ احترمه لكنني أرى فيه تقييداً من نوعٍ آخر، وأنا التي لطالما تشدني معتقداتي لفصل الجوهر عن المظهر.

لا سيما أن النظام الأبوي المتجذر بالفكر العشائري جعلنا عرضة للاتهامات والتقييم بناء على ما يحلو لهم، والتقييم على الدوام حتى من أقرباء الأقرباء، بل ومن جميع من ينتمون لذات العشيرة.

دور الإعلام والدراما السورية السلبي بترسيخ الصورة النمطية
من جانب آخر، نرى بأن الصورة النمطية للمرأة العربية من بيئة عشائرية لم تنحصر في البيئة المحيطة، والنمطية التي ترسخت ليست نتيجة الأعراف والعادات فحسب، بل نتيجة قلة الفرص أيضاً فلم نسمع باسم أي امرأة من بيئة العشائر في الحقل الإعلامي ما قبل عام 2011.

ويعود ذلك بسبب السلطات و من خلال تحكمها بالإعلام الوطني السوري كانت تحصر الشواغر الإعلامية للنساء بفئة معينة من المناطق السورية، ولم تتح أي فرصة أمام الفتيات من المنطقة الشرقية من أجل المحاولة لإثبات ذاتهن و تغيير لو جزء بسيط من الذهنية العشائرية، على عكس ما حصل ما بعد عام 2011، و تأسيس العشرات من الوسائل الإعلامية المستقلة على أرض المنطقة “شمال وشرق سوريا”.

أتيحت الفرصة أمامنا نحن الذين تمردنا على الأعراف ودخلنا الحقل الإعلامي دون مبالاة للقيود، التي حرمت العديد من الفتيات أبسط حقوقهن باختيار المهن التي يطمحن لها، واستطعنا حمل الكاميرا والمايك والتنقل من مدينة إلى أخرى ومن مخيم لآخر، رغم كل النظرات التي كانت تود أن تعيدنا إلى نقطة الصفر وأدنى.

وهذا ما استنتجته أيضاَ من تجربة سلام سلطان التي ظهرت بحجاب على إحدى الشاشات التلفزيونية المحلية في شمال شرق سوريا، الأمر الذي كان يحتاج لألف سنة ضوئية للظهور بذات الحُلة على شاشة وطنية سورية، لعبت دورا كبيرا بترسيخ الصورة النمطية عن المرأة التي تنتمي لعشيرة من خلال الدراما والمسلسلات، عوضاً من أن تكافحها وتظهر صورة المرأة العربية من بيئة العشائر بدون النمطية البالية.

فالدور الذي لعبته الدراما السورية لم يقل عن دور الإعلام السوري في ترسيخ الصورة النمطية عن المرأة التي تنتمي لبيئة عشائرية، كونه كان يصور المرأة في المنطقة الشرقية على أنها بدوية ترتدي العباءة و الحجاب وترعى الأغنام وتستخدم اللهجة “الشاوية”، كما يرافق هذا المصطلح “شوايا” أبناء المنطقة الشرقية عموماً )الحسكة-دير الزور-الرقّة(، (أنتِ من محافظة الحسكة إذا انتِ “شاوية”) أي أقل مستوى اجتماعياً من أي شخص في المدينة، وذلك بلهجة طبقية ونمطية تحض على التمييز وتهمش دور المرأة المتعلمة و المثقفة من البيئة العشائرية.

وعملت المسلسلات الكوميدية، وخاصةً في “بقعة ضوء-مرايا”، على التأصيل للصورة النمطية المأخوذة عن أبناء المنطقة الشرقية، فهم بشعور طويلة، و”جلابية”، يمتلكون الكثير من المال، والكثير من السذاجة التي تصل إلى حد وصفهم بـ”الغشم”، ولهؤلاء “الشوايا”، عادةُ تعدّد الزوجات، وكثرة الأولاد، وبينهم وبين النظافة مسافة شاسعة، ولهم عادات “مقرفة” في الطعام، من وجهة نظر من يمارس التنميط ضد أبناء المناطق البعيدة عن ضجيج المدن الكبرى.

هذا الأمر ولّد انعكاسات للنظرة النمطية ربما حتى من المجتمع المحيط الذي أعمل وسطه، فـمشاركاتي في الوسط الإعلامي بشمال وشرق سوريا يضعني دائماً بقالب مستبعد من إنني عربية تنتمي لبيئة عشائرية، وأكثر كلمة تتداول بأسماعي “مش باين عليكِ”، وذلك نتيجة النمطية المسبقة.

ومرت سنوات على وجودي كفتاة عربية في الوسط الإعلامي بالمنطقة. وفي الحرب تحديداً، وباتت جملة “مو مبين عليكِ”، مدعاةً للفخر من دون أن أشعر، فقد انتصرت الكثيرات منا على “النمطية”، التي ما تزال تواصل حربها عبر “الكوميديا السمجة”، التي يصنعها السوريون حتى بحديث الشارع بين مختلف المكونات، وانتصرت الكثيرات منا على الشائعات التي يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإذا ما سألني أحد فعلاً…؟ أجد نفسي أقول بكل بساطة: “حقاً… أنا عربية من عشيرة”، والأمر لا يتعلق بمناطقية الانتماء لبيئة عشائرية، على الرغم من كونه دافئاً بطبيعة الحال، لما للمنطقة من ذاكرة وموروث، وإنما بنوع من محاربة “الصورة النمطية”، التي أجد نفسي جزءاً من المعركة ضدها.

جهود خجولة لمكافحة الصورة النمطية
و رغم ازدحام منظمات المجتمع المدني والمؤسسات والجمعيات النسوية في شمال وشرق سوريا، و وسط كثرة الجلسات الحوارية والمنتديات وغيرها من النشاطات، إلا أننا لا نرى جهود حقيقية لمكافحة الصورة النمطية المترسخة في مجتمعنا، و لم تعطي المنظمات المعنية بالمرأة هذا الجانب حقه.

وضمن السياق، تقول سولين محمد أمين إعلامية وناشطة نسوية: “إن المؤسسات النسوية والمنظمات المعنية بالمرأة مبادراتها قليلة، كما أن أساسها ضعيف جداً وخجول، ولم ينظروا نظرة قوية لعلاج المشكلة، إنما يتم طرحها بشكل متواضع في الجلسات دون المساس بالعشيرة أو استضافة وجهاء العشائر ويتم مواجهتهم بحالة الغبن التي تتعرض لها المرأة”.

بينما ترى الناشطة النسوية هيلين محمد، أن الجهود الخجولة بمبادرات المؤسسات والمنظمات النسوية تعود لسببين، الأول نتيجة أحكام العشيرة الصارمة والقيود الملتفة حولها، تشعر المبادرات بتخوف كبير لأنه سلفاً العشائر تضع بعضها البعض تحت المجهر، والثاني يعود لسبب أن المرأة المنتمية لعشيرة ليست على استعداد مواجهة الأحكام الموضوعة في سبيل كسر القيود والصورة النمطية، لذلك نرى المبادرات بمكافحة الصورة النمطية قليلة”.

رغد المطلق : كاتبة صحفية

الصورة من النت

By admin-z