فخري محمد

مصطلح الجندر ظهر في سبعينيات القرن الماضي كتعريب لكلمة إنكليزية تنحدر أساساً من أصل لاتيني، وتعني بالمجمل في إطار اللغة الجنس من ناحية الذكورة والأنوثة.

في الموسوعة البريطانية التي تعد أشهر الموسوعات في العالم وأشدها سعة واطلاعاً، كما أنها من بين أقدم الموسوعات المطبوعة باللغة الإنكليزية، عُرف الجندر بأنه شعور الإنسان بنفسه كذكر أو كأنثى، وأن الهوية الجندرية ليست ثابتة بحسب تعريف الموسوعة، التي تضيف بأن الهوية تؤثر فيها عوامل نفسية واجتماعية لتشكيل الهوية الجندرية، وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية التي نما بها الطفل.

ولأن اللغة تعد من أكبر الأدوات التي تُعرف بها الشعوب وتعبر عن هويتها أمام نظيراتها من الشعوب الأخرى، بدأت منذ مدة ليست بالقصيرة محاولات حثيثة لـ “جندرة” اللغة العربية التي تبدو للبعض لغة طاغية بالذكورة، لا سيما في الخطاب الذي تنتهجه معظم وسائل الإعلام العربية.

وترتكز الدعوات بهذا الشأن إلى ضرورة تأنيث المصطلحات الخاصة بالذكورة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وحتى المقروءة منها، حيث هناك أمثلة كثيرة على نسيان أو تناسي بعض وسائل الإعلام ضرورة الاهتمام بمتابعاتها من الإناث، إذ كثيراً ما نشاهد مذيعاً ما يقول “أعزائي المشاهدين” أو يقول “عليكم أن تزوروا موقعنا”.

صراع التغيير
تغيير الثوابت التي بنيت عليها اللغة العربية ليس بالأمر السهل، فاللغة العربية غنية بالمفردات، وغناها يأتي من قدمها الضارب في التاريخ، وتحولت المطالبات بجندرة اللغة شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه الصراع بين المؤيدين والمعارضين لهذا التغيير.

صراع شبهه البعض بالعبثي، فلكل طرف ما يستند إليه من الحجج والبراهين، إذ يعده المعارضون لغة جامدة غير مرنة ومنحازة للذكور دون الإناث، ومردّهم في ذلك أن نشأة اللغة كانت في عصر هيمنت فيه الذكورية على المجتمع، على عكس اللغة الإنكليزية التي تخاطب في كثير من الأحيان الشخص بغض النظر عن جنسه إن كان ذكراً أو أنثى، فيما يراها المدافعون عنها لغة رصينة وبريئة من كافة التهم التي تكيلها لها الجمعيات والشخصيات المطالبة بالجندرة، وينسبون القصور المزعوم إلى الخطاب وليس إلى اللغة.

وبعد سنوات من “نضال” المطالبين بجندرة اللغة ظهر استخدام الشرطة المائلة (الصحفيين/ ات – الموظفين/ ات) في الخطابات والمراسلات الرسمية لبعض المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك المواقع الإلكترونية التي تعنى بحقوق المرأة وتسعى لتمكينها في المجتمع، كوسيلة أو أداة بسيطة لمجاراة سيل المطالبات الساعية لتحديث اللغة.

فيما ذهب البعض منهم إلى أبعد من ذلك، واقترحوا -رغم عدم رواج مقترحهم- الجمع بين لواحق تمييز الجنس، ككتابة “لكم/ لكنَّ” بهذا الشكل (لكمن)، أو كتابة “الموظفون/ الموظفات” بهذا الشكل (الموظفوت).

الصراع مع نص مقدس
معلوم لدى الجميع أن اللغة العربية تشير للذكر بضمير “هو” في حالة الغائب، أو “أنتَ” في حال مخاطبته، فيما تشير للأنثى بضمير “هي” في حال الغائب، أو “أنتِ” في حالة مخاطبتها، والإشكالية تبدأ فعليًا في حال مخاطبة جمع ما، فإن كان الجمع من الذكور فقط يتم التوجه لهم بضمير “أنتم”، ولو كان الجمع كله من النساء، يتم التوجه لهن بضمير “أنتن”، وفي حال كان الجمع مختلطاً بين الذكور والإناث، يتم التوجه لهم بضمير “أنتم” حتى لو كان الجمع كله نساء وبحضور رجل واحد فقط، تميل اللغة في تواجده لصالحه رغم أكثرية النساء.

تكمن صعوبة أو مشقة صراع دعاة تحديث اللغة مع “المحافظين” إن صحت تسميتهم، بأنه أحيانًا يصطدم مع القرآن، الذي يعتبر المرجع الأول لفقهاء اللغة العربية، والذي يكرس بشكل أو بآخر ذكورية اللغة، على الرغم من وجود خطابات في الكتاب المقدس لدى المسلمين موجهة للمذكر والمؤنث في صيغة “المؤمنين – المؤمنات” والأمثلة كثيرة، إلا أنه بعد ذلك يأتي الضمير ليكون حصرًا للمذكر.

وتكثر الآيات التي تؤكد أن القرآن كُتب بلسان عربي فصيح -وهو ما يشكك فيه الكثيرون أيضًا-، لتتحول الدعوات لتحديث اللغة من نقاش إلى جدال مع إصرار كل طرف على موقفه، خاصة مع ارتكاز المحافظين إلى مرجع مقدس لا يمكن المساس به أو الانتقاص منه بأي شكل من الأشكال لدى المجتمعات الإسلامية أو التي لديها توجه ديني.

ومع الحداثة التي تواكب مناحي الحياة كافة، والتي يقول المطالبون بتطوير اللغة إن هذه الحداثة يجب أن تشمل كذلك أركان اللغة العربية وقواعدها.

معضلة أخرى
لكن ما يغيب عن أذهان دعاة التحديث والمحافظين إلى الآن، وجود دعوات قوية في المجتمعات الغربية لحصول المثليين على ما يصفوها بحقوقهم الاجتماعية السياسية من خلال إقرارها ضمن قوانين أو دساتير تلك البلدان، وربما لن يكون مستغربًا أن تصل مثل هذه الدعوات إلى مجتمعنا الشرقي “المحافظ”، وحينها من المتوقع أن تحدث جدلية أخرى، وربما أشد، في حال لو طالب دعاة حقوق المثليين بإيجاد ضمائر تشير لهم ضمن خطة أشمل لتحديث اللغة.

وفي الختام نرى أن اللغة العربية لها ما لها وعليها ما عليها، ولو رأى دعاة تحديثها إلى ميزاتها، ونظروا إلى نصف الكأس الملآن، ربما لخفت حدة الاتهامات الموجهة لها بالذكورية، فهي مجرد أداة طوّعها البعض في مجتمع ذكوري منذ قرون لتتكيف مع العقلية السائدة آنذاك، وربما لو أزيلت هالة القدسية عن مراجع اللغة العربية من قبل من ينادون بالحفاظ على عليها، لكان التحديث دوريًا ولا يحتاج إلى كل هذا القيل والقال، وما كانت اللغة العربية عالقة الآن بين المحدثين والمحافظين، كما لو أنها شيء عالق بين المطرقة والسندان.

فخري محمد : كاتب صحفي

الصورة تعبيرية من النت

By admin-z