فخري محمد

منذ تشكل الكون كانت المرأة الكائن المستضعف في الوجود، فكانت توكل إليها مهام سهلة تتناسب مع بنيتها التكوينية، وهذا ما خلق تأطيراً للمرأة ولدورها على مر العصور، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، وجعلها تابعة لقرارات الرجل ومنفذة لها دون مناقشتها حتى لو كانت تضر بها وبكينونتها.
ومن بعض تلك القرارات كانت مسألة الزواج والارتباط، لتنتقل المرأة فعلياً من تبعية رجل إلى رجل آخر، وحين تحاول المرأة رفض تلك القرارات تواجه مشاكل جمة تبدأ بإجبارها وخضوعها للقرار، وتصل أحياناً لفقدان حياتها جراء هذا الرفض.
لكن ما يعتبر خرقاً للقوانين والعادات والتقاليد محاولة المرأة الزواج من رجل من غير دينها أو طائفتها أو عرقها أو حتى عشيرتها في بعض الأحيان، لتخلق جدلية وقوع المرأة بين خيارين أحلاهما مر، فإما أن تختار البقاء مع أهلها، وإما الخروج عن طاعتهم والارتباط بالرجل الذي تحبه ويحبها.

الزواج المختلط والقانون
القانون في سوريا لا ينصف المرأة بشكل عام، وفي مسألة الزواج من رجل من دين آخر، فهو هنا يهضم حقها تماماً، إذ تنص الفقرة الثانية من المادة الثامنة والأربعين من قانون الأحوال الشخصية السوري بإن زواج المسلمة من غير المسلم هو زواج باطل وحكمه حكم الزنى.
كما نصت المادة الخمسون من القانون على عدم ترتب أي آثار من آثار الزواج على العقد الصحيح مثل الميراث والمهر ونسب الأولاد وغيره.
وبحسب المدير العام لدائرة الأحوال المدنية في الحكومة السورية، أحمد رحال فإن الزواج بين مسيحي ومسلمة باطل ولا يتم تنفيذه بالمحاكم السورية حتى لو تم تنفيذه في أي بلد، لأنه مخالف للقوانين السورية، موضحاً أن الزواج في سوريا نوعان، شرعي للمسلمين وكنسي للمسيحيين، وحكماً يجب أن يكون الزوجان من نفس الديانة.
وفي قانون الأحوال الشخصية السوري يطبق المسلمون التشريعات الآتية من الشريعة الإسلامية، فيما يحتكم المسيحيون إلى شرائعهم الكنسية في هذا المجال، وأتباع الطائفة الدرزية يلجؤون إلى تشريعاتهم الخاصة، فيما يبقى الإيزيديون غير المعترف بهم كديانة مجبرون على التعامل بوثائق تصنفهم كمسلمين ويخضعون للتشريعات والأحكام الإسلامية.
بالمجمل فإن القانون السوري استقى مواده من الأديان الموجودة في سوريا، فهو يمنع زواج المسلمة من غير المسلم ويعده زنا ويعتبر الأطفال في حال وجِدوا غير شرعيين.
ويسمح للمسلم بالزواج من كتابية / مسيحية – يهودية/ استنادا إلى الآية الخامسة من سورة المائدة من القرآن، والتي تشترط أن تكون الزوجة حرة وعفيفة.
وفي حالة الزواج الكنسي، فالكنيسة لا تقر الزواج المختلط مطلقاً، امتثالاً لفحوى الرسالة الثانية لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس، ولو أرادت مسلمة الزواج من مسيحي فعليها أن تتعمد في الكنيسة، وهو ما يعد ارتداداً في الإسلام ولا تتعرف الدوائر الحكومية بهذا الزواج أبداً.

الزواج المختلط والمجتمع
الزيجات المختلطة تبدو شاذة في المجتمع السوري المحافظ نوعا ما، ويمكن وصفها بالمنبوذة من قبل العائلة، التي يكون فرد منها أحد أطراف هذا الزواج.
في معظم الأحيان المشاكل تبدأ فعلياً مع الصدمة الأولى التي يتلقاها الأهل من إمكانية ارتباط ابنتهم بشخص من دين مغاير، فتتوالى المحاولات السلمية حيناً والعنيفة حيناً آخر لثني الفتاة عن قرارها.
وعندما تصر الفتاة على رأيها تغدو مجبرة للهروب مع الشخص الذي تريد الارتباط به، لتبدأ مرحلة جديدة في حياتها، فعائلتها التي عاشت معهم طيلة سنوات خلت يصبحون أغراباً في ليلة وضحاها، ليخططوا للتخلص منها بداعي حماية العرض والشرف، أو يتبرؤون منها ومن أطفالها في المستقبل، وتخسر حقها في الميراث، إن كانت العائلة رحيمة بها، بحسب نظرة المجتمع.
مشكلة أخرى تعانيها الفتاة المتزوجة من رجل من غير دينها، وهي كيفية التعامل مع أهل زوجها، فالبعض منهم يرتاب منها، ويخافون أن تربي أطفالها على عكس عاداتهم الدينية.
ولا تخلو معاناة المرأة هنا من نبذ المحيط لها ولأطفالها، إذ يكنى أولادها بـ “أولاد فلانة” بحسب دينها أو عرقها أو حتى عشيرتها ولون بشرتها.
الإشكالية الأكبر تكمن في حال توفي الزوج وباتت هذه المرأة أرملة، فتكون كالغصن الهش القابل للانكسار في أي لحظة، في ظل إنكار عائلتها لها، وعدم ترحاب عائلة زوجها بها.
والحديث يطول عندما نسرد حالات للزواج المختلط في منطقتنا، لكن علينا طرح مثال آخر لهذا الزواج وهو عندما تكون المرأة مضطرة للقبول به لإنقاذ نفسها من الموت في بعض المرات وهو ما حصل مع كثير من النسوة المسيحيات اللواتي تزوجن من مسلمين في أوج الإبادة الجماعية للمسيحين في تركيا إبان الحرب العالمية الأولى.
وكذلك قبول الفتاة بأن تكون “كبش فداء” في أحياناً أخرى لإنقاذ أحد أفراد عائلتها من الموت، وترضى بزواج “البدل” في حالة خطف أخيها لفتاة من عائلة أخرى بقصد الزواج.

تشريع الزواج المدني
الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كانت سباقة في خضم الصراع الدائر في سوريا إلى إقرار الزواج المدني في مناطقها، وكانت أول حالة قد سجلت في مبنى بلدية القامشلي عام 2013 تحت مسمى “عقد الحياة المشتركة”، وهو ما خلق حالة جدال بين السوريين منهم المؤيد للفكرة والمعارض لها.
أما الآن فالإدارة الذاتية تمتنع عن تسجيل واقعات الزواج بموجب عقد الحياة المشتركة للمقيمين في مناطقها، إذ يلزم استخراجه أن يكون الزوج في إحدى الدول الأوروبية أو مقيم في إقليم كردستان، وهو أحد الوثائق التي يستلزم وجودها لمغادرة الفتاة مناطق الإدارة الذاتية نحو الإقليم.
فهل تعد خطوة الإدارة الذاتية هذه تراجعاً أمام المتدينين، أم إرضاء للمناطق التي انضمت للإدارة بعد عام 2015، أم رضوخاً للواقع، إذ يعقد الزوجان قرانهما شرعياً قبل استخراج عقد الحياة المشتركة، وهو ما يجعل وجود الأخير شكلياً وليس جوهرياً.
ربما المخرج الوحيد لعذابات المرأة هو تشريع الزواج المدني الذي يلغي الفوارق الدينية والمذهبية والعرقية كافة بين طرفي الزواج، والبعيد كل البعد عن سلطة الدين ورجالاته، فهناك لها مطلق حرية الارتباط بمن تريد، دون قيد أو شرط، وهناك أيضاً كل حقوقها مصانة في حال اختلافها يوماً ما مع الرجل الذي ارتبطت به.
وربما على السوريين التخلي عن تركة العثمانيين في حالة قانون الأحوال الشخصية، كما تخلى عنها الأتراك أنفسهم مع قيام الجمهورية التركية في عشرينيات القرن الماضي.

فخري محمد كاتب صحفي

الصورة تعبيرية من النت

By admin-z