عزالدين ملا
تُكثَر في الآونة الأخيرة أصوات تُنادي في مجتمعاتنا الشرقية إلى التعامل مع مفهوم الجندر، ويرون أنه من خلال هذا المفهوم يُمكن بناء مجتمع صحي وواعي، ووطن بنَّاء ومزدهر، ولكن هذه الأصوات في واقعنا تصطدم بالعقلية الذكورية والعادات والتقاليد الشرقية، لذلك قد يكون هذه المفهوم غير مُحبَّذ لدى الغالبية الذكورية، لأن الذكر في المجتمعات الشرقية يرى نفسه ملكاً يفعل ما يشاء دون رادع وفق الشرائع والقوانين المجتمعية في شرقنا العقيم، واصفاً حالته بالحر في تصرفاته وتعاملاته اليومية إن كانت ضمن الأسرة أو في المجتمع، يعطي نفسه الحق في كل شيء، حتى في القرارات المصيرية الأسرية والمجتمعية على نفس السوية.

الرجل يراهن على قوة رجوليته في مدى تحكمه بمصير زوجته
كما تحصل في معظم قُرى أرياف مجتمعنا الشرقي وهذا ما لمسته في جولاتي إلى قرى تل كوجر وجزعة جنوبي مدينة قامشلي السورية، حيث يتمختر الرجل بمشيته وهو واضع سيكارته في طرف شفتيه، ويُلقي السلام يميناً وشمالاً، فقط لأنه قد تزوج بثلاث نسوة، إذاً فهو يمتلك العزّ والجاه، لأن النسوة الثلاث يعملنّ كـ عاملات في جني القطن أو قطاف الخضروات، بذلك يكون صاحب العزّ قد كسب في نهاية كل يوم مبالغ جيدة من يوميات زوجاته العاملات، ويزيد على ذلك الأعمال المنزلية التي تقوم بها زوجاته من طبخ وغسل دون أي اعتراض، لأنهنَّ يدركن في حال اعتراض إحداهنَّ، تكون مصيرها الضرب أو الطلاق، في هذه الحالة تصبح منبوذة عند أهلها أولاً، وعند مجتمعها ثانياً.

المرأة في مجتمع كهذا تكون مقموعة وعديمة الإرادة، تخضع لقوانين غير صحية وغير إنسانية وذات قواعد غير صحيحة، تُنتهك قراراتها وحتى حياتها بإشارة بسيطة من الرجل، وتكون عُرضة للابتزاز والإهانة، ويراهن الجنس الذكوري على قوة رجوليته في مدى تحكمه بمصير وإرادة زوجته أو اخته، وحتى تحكمه بإرادة الموظفة والعاملة ضمن مكان عملهم المشترك، ويرى ذلك فخرا واعتزازا له، ورفعةً من مكانته ضمن البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه.

ومن هنا، ترى المرأة نفسها سليبة الإرادة وضعيفة الشخصية ما يؤثر بشكل بالغ على حالتها النفسية والعقلية، يفرض هذا الأثر في ضعف قابليتها على الإنتاج والتخطيط وحتى الانخراط بشكلٍ سوي في المجتمع.

العادات والتقاليد المتحكم الأساسي بإرادة المرأة
من العادات التي لفتت نظري، أثناء تواجدي في ضيافة أحد أصدقائي الذي كان يسكن في إحدى القرى جنوب بلدة تل حميس، التابعة لمحافظة الحسكة السورية في عام 2007، أن جميع الأعمال الشاقة كانت من نصيب النساء، وما لاحظته عند صديقي، رغم أنه كان مدير مدرسة أي صاحب شهادة جامعية، أنه يُفكر مثل البقية في أن المرأة ليست لها وزن أو قيمة في قريتهم على أقل تقدير، كُنا جالسين في فناء منزله، ونحن نحتسي الشاي الذي أتى به أحد زوجاته، التي كانت في الأساس منهمكة مع البقية وهنّ ثلاث في تجبيل الوحل من أجل تسييع الدار قبل حلول فصل الشتاء، هذا العمل بحاجة إلى مجهود عضلي كبير، ولا يتحمّله سوى الرجال، ورغم ذلك كان صديقي يفتخر بزوجاته وأعمالهنَّ وكأن في ذلك رجولة وهيبة، ويفتخر بذلك أمام أقربائه وعشيرته، وإن لم يفعل ذلك كما هو يقول، سوف يضحك الجميع عليه ويصفونه بأنه ليس رجلاً، وسألته هل مفهوم الرجل لديكم هكذا؟، أكّد، أن ذلك يرفع من شأنه بين القوم.

إن مفهوم الجندر في مجتمعاتنا الشرقية لن يكون له صدى إن لم يكون هناك وعي وتثقيف مجتمعي تجاه هذا المفهوم، العادات والتقاليد في المجتمع الشرقي هو المتحكم بمصير الفرد والأسرة والمجتمع هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العادات هي التي تجعل من الرجل الآمر الناهي في مصير المرأة، تعطيه حيزاً واسعا من الديكتاتورية تجاه الطرف الآخر، عوضاً أن يكون هذا الطرف الشريك والمكمل للطرف الأول.

عليه، يجب أن يعي الرجل الشرقي، بأن هناك فرق بين الجندر والجنس، فالجنس يشير إلى الفرق بين الجنسين بيولوجياً، ذكر أو أنثى، في حين يُشير الجندر إلى الفرق بين الجنسين اجتماعيا، امرأة ورجل، مفهوم الجندر لا يولد بل يُكتسب بعد الولادة، هو شيء لا نملكه وإنما هو ما نفعله ونؤديه، ومن الضروري أن نتعامل مع هذا المفهوم من منظور الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمجتمع، فالمجتمع قائم على أساس الجنسين لا على جنس واحد فقط من حيث المكتسبات والحقوق والامتيازات.

القرار ذكوري والمشهد أنثوي
حالة الحيار كما تتم تسميته في مجتمعاتنا، أي يدخل ابن العم في موضوع الزواج، ولا يسمح لأحد غيره في طلب يد ابنة عمه، حتى ولو كانت الفتاة غير راضية وتحب شخصاً آخر، هذه العادة أحدثت العديد من الإشكاليات في مجتمعنا، دفع بالعديد إلى الانتحار أو الخطيفة، وفي كثير من الأحيان يتم الملاحقة والقتل.

علاوة على ذلك فإن هناك ما هو أسوأ في موضوع الحيار، حتى لو كان ابن العم متزوجاً من امرأة أخرى أو أكثر، لا يهم، المهم هو ابن العم ويحق له ما يريد دون اعتراض من أحد، لأنه ذكر ويحق له فعل ما يشاء.

هنا، يمكننا أن نركز على نظرة العقلية الذكورية في مجتمعنا الشرقي تجاه المرأة، هناك من ينظر وهم الغالبية، أن المرأة تعتبر كـ متاع له وعليه اقتناءه، وهذا المتاع يستطيع تبديله أو تغييره أو الإتيان بآخر في حال إن رَغِبَ في ذلك، وهذا بحد ذاته انتقاص من قيمة المرأة في مجتمعاتنا، لذلك تجعل هذه العقلية مجتمعاتنا الاتكاء على أحادية القطب، الذي بدوره يدفع بالمجتمع نحو التفكير الأحادي والعمل الأحادي، مما يجعل من تطور تلك المجتمعات ناقصاً وغير مكتملا، وعلى هذا النحو تهوي هكذا مجتمعات باتجاه مصير مجهول ومستنقع مظلم.
ومن هذا المنطلق، تطغى العقلية الذكورية على القرارات المصيرية في الأسرة أولاً ومن ثم في المجتمع ثانياً.

الوطنية ليست هباءً منثورة
عندما يتحدث رجال تلك المجتمعات عن الوطن والوطنية فهذا نفاق ومراوغة وليست حقيقة صحية، كيف لنا أن نبني وطناً صحياً بغياب المرأة ودورها واحترامها في الأسرة والمجتمع، فالمرأة بحد ذاتها ركن أساسي من أركان الوطن، فكيف لنا أن نهمل ذاك الركن ونخون الوطن، والمثاليات الذكورية في مجتمعاتنا الشرقية عن الوطن والوطنية ليست سوى كلام فارغ يطلق في الهواء، لا قيمة له ولا وزن.

الوطنية ليست كلام يلقى هباء منثورة، فالوطنية تبدأ من الأسرة السليمة القائمة على بنيان مرصوص من التعاون والتشارك والتوازن في التربية ضمن العائلة الصغيرة، والحفاظ على الحياة الزوجية هي وطنية بحد ذاته، فالوفاء للمرأة هو الوفاء للوطن، وغير ذلك غدر وخيانة للوفاء والوطنية.

ضرورة التغيير لبناء مجتمع صحي
من خلال الحالات التي تمَّ ذكرها تتولد لدينا أهمية العمل على تضمين مفهوم الجندر في حياتنا اليومية من خلال خلق مجتمع متوازن قائم على الاختلاف، وتوظيف هذا الاختلاف بين الجنسين؛ لتحقيق التكامل والتكميل بينهما وليس تفضيل أحدهما على الآخر.

لذلك من الضروري العمل على توعية المجتمع وتثقيفه من خلال ورشات عمل وجلسات حوارية وبرامج توعية وتثقيفية تلفزيونية وإذاعية؛ لترسيخ مفهوم الجندر أولاً وأن الجندر لا يعني الهتك بالعادات والتقاليد ثانياً، بل على العكس ان هذا المفهوم يفتح الطريق أمام بناء مجتمع شرقي سليم، ومنه تُمتن جسور الحب والإخلاص ضمن أفراد المجتمع الواحد، وتتوسع المدارك نحو البناء والازدهار لمستقبل صحي ومشرق.

عزالدين ملا: كاتب صحفي

الصورة تعبيرية من النت

By admin-z